بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
إنه لمن الأعراف الإنسانية النبيلة تعيين يوم عالمي لقضايا البشرية المهمة يجتمع فيه المسؤولون وصنّاع القرار وأهل الحل والعقد لمناقشة تلك القضايا. فللعمال يوم، وللمرأة يوم، ولمكافحة الإيدز آخر، ولمكافحة التدخين يوم، هو هذا الذي نجتمع فيه، والموضوع الذي نختاره هو (الشريعة والتدخين) حيث يتساءل الكثيرون عن حكم التدخين في الشريعة ويستغرب الكثيرون من عدم اتخاذ الفقهاء موقفاً حازماً ضد هذه الظاهرة السيئة.
ولتحديد موقف الشريعة من التدخين نقول:
إن معرفة الحكم الشرعي لأي موضوع - كالتدخين - يكون بأحد صيغ ثلاث:
الأولى: أن يرد نص صريح في حكم ذلك الموضوع بعنوانه الخاص كحرمة الزنا وحلّية البيع ووجوب الصلاة، حيث وردت نصوص مباشرة فيها.
الثانية: أن يرد نص بالحكم على الموضوع بعنوانه العام ويكون هذا الموضوع الخاص أحد مصاديقه وتطبيقاته كحرمة كل مسكر مهما قلّ مقداره مادام الكثير منه حرام.
ومنه نعرف حرمة تناول البيرة لانطباق عنوان المسكر عليها رغم عدم وجود نص بعنوانها.
الثالثة: أن يطرأ على الموضوع عنوان ثانوي له حكم معين فيشمل ذلك الموضوع بواسطة طروّ هذا العنوان عليه كالتصرف في مال الغير بدون إذنه فهو محرم لكن إذا توقف إنقاذه من حريق على التصرف في ملكه بدون إذنه فإنه يصبح واجباً لوجوب إنقاذ الإنسان من الهلاك.
وحينما نريد معرفة حكم التدخين في الشريعة فإننا لا نجد حكماً بالصيغة الأولى فينحصر البحث في الصيغتين الأخريين وحينئذٍ سنجد على صعيد الصيغة الثانية الحكم بالحلّية لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت الحظر والمنع والمفروض عدم ثبوت مثله.
أما على صعيد الصيغة الثالثة فإن هناك عدة عناوين يمكن أن تكون منشأً للمنع والقول بالحرمة، كالإضرار بالنفس وتلويث البيئة والخسائر الاقتصادية الفادحة، وقد تكفّل كمٌ هائل من الدراسات والإحصائيات بيان حجم هذه الأضرار والخسائر.
وأضيف إليها النقص الأخلاقي على صعيد جهاد النفس الذي سمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجهاد الأكبر، فإن غاية ما يطمح إليه الأخلاقيون والعرفانيون المشتغلون بتهذيب النفس وتطهير القلب هو تحرير الإنسان من سلطة وطاعة أي شيء سوى الله تعالى والتخلّص من التعلق بأي شيء غيره تبارك وتعالى، فمن هذه الناحية يكون المدخن أسيراً لسيكارته لا يستطيع مقاومة هذه الرغبة الجامحة، وهذا نقص وتعويق في طريق الكمال. وأتذكر أننا حينما سألنا أستاذنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أنك بنعمة الله متخلص من داء التدخين قال (قدس سره): أما يكفيني أني عبدٌ للشاي حتى أكون عبداً للسيكارة وكان (قدس سره) مواظباً على شرب الشاي.
ومحل الشاهد أن هذه المخاطر الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية إذا بلغت درجة تقنع الفقيه بالحرمة فإنه سيحرم التدخين بهذا العنوان الثانوي وإلاّ فلا، ومن هنا اختلفت فتاوى الفقهاء بسبب تفاوت قناعاتهم.
ومما يجدر ذكره أن نتيجة الصيغتين الثانية والثالثة لو تعارضتا فإن المرجح هي الثالثة كما في المقام.
وقد لا تحصل للفقيه القناعة بالتحريم العام للتدخين وإنما يحرّمه في حالات خاصة، كما لو كان الإنسان مصاباً بحالة يضرّه فيها التدخين ضرراً بالغاً ومباشراً فإنه يحرم على هذا الشخص خاصة.
ومن الحالات الخاصة للتحريم ما أفتيتُ به عام 2002 بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) حيث أعلن عدد من قادة الدول الغربية بصراحة وبوضوح الحرب الصليبية على الإسلام فحرّمت التعامل بالسكاير الأمريكية لأنها من موارد التمويل الضخمة للشركات التي تدعم الجهد المعادي للإسلام وقد استجاب للفتوى عدد كبير من تجّار السكاير بالجملة والمفرد مما أضرّ بهذه الشركات.
وأنقل لكم هذه الفقرة من مذكراتي: (في يوم 10 - 6 - 2002) جاءني إلى مسجد الرأس الشريف المجاور لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كنت ألقي فيه محاضراتي العلمية وأدير منه نشاطاتي الفكرية والاجتماعية جاءني ممثّل شركة الخير لإنتاج السكاير ومنها (ميركوري) وأنواع أخرى في الأردن بعد أن طلبت منه شركته باعتباره الجعفري الوحيد في وكلائها حسبما قال للاستفسار من الحوزة العلمية حول صحة صدور فتوى بتحريم السكاير، وقال إن الشركة أبلغته بتكدس آلاف الكارتونات من السكاير ويكلف كل كارتون ثمانية دولارات من الرسوم الكمركية، وفهمت منه إمكان تقديم جزء من هذا المبلغ الكبير مقابل سحب الفتوى، ولما لم يفلح تحوّل إلى التهديد فقال أن مقر فرع الشركة في العراق في تكريت وأن الرسوم تدفع إلى عدي صدام حسين وأصررت على الفتوى وقلت له: أن هذا الموقف متفق عليه لدى العلماء بحرمة تقوية أعداء الإسلام وأثنيت أمامه على طاعة الأمة لفتاوى (الحوزة العلمية الشريفة).
وأكـرر الآن ما قلته يومذاك من حرمة التعامل بالسـكاير الأمريكية والبريطانية والفرنسية بيعاً وشراءً وتناولاً.
بقي عليّ أن أقدم باختصار بعض الخطوات العملية التي تساعد على ترك التدخين:
1- زيادة العلم والمعرفة بسوء هذه الحالة وأضرارها من جميع الجهات التي أشرنا إليها آنفاً، وأشرفنا على كتاب لبيانها عنوانه (حتى متى التدخين) ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف) وقد ساهم في إقناع كثيرين بتركه، وكلما ازداد العلم ازدادت القناعة والاندفاع نحو العمل بمقتضى هذا العلم فإن المعرفة أساس العمل ويكتسب قيمته منها، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أول الدين معرفته) وهذه وظيفة المؤسسات الصحية والفكرية والاجتماعية والبيئية من خلال حملة إعلامية موسعة.
2- تقوية العزم والإرادة وقهر النفس والانتصار عليها وعدم الانسياق وراء أهوائها إلاّ ما كان صحيحاً ومحقاً، قال تعالى في مدح من يملك زمام نفسه ويحاسبها: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]، وذمّ من يتبع هواه من دون رويّة وتأمّل في عاقبة الأمور: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ]، لذلك كان من أهم الصفات في الأنبياء العظام والرسل الكرام التي أشار إليها الله تعالى في كتابه العزيز هو العزم وقوة الإرادة فقال عز من قائل فيما أوصى به خاتم الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وآله وسلم): [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ].
يروى أن هارون العباسي كان مبتلى بعادة سيئة مدمناً عليها فطلب من مستشاريه إقناعه والتأثير عليه لتركها فحاول هؤلاء بحسب اختصاصاتهم. فالأطباء من الناحية الصحية والتجّار من الناحية الاقتصادية والفقهاء من الناحية الشرعية، فلم يفلحوا ثم التجأ إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) الذي عرف بنور الله تعالى أن مشكلة هارون تكمن في ضعف إرادته لتنفيذ القناعة وليس في أصل الاقتناع فاستثار فيه هذه الهمّة وقال (عليه السلام): (أين عزم الملوك)، فتحركت عزيمته واستجمع قوته وترك ما كان مبتلى به.
3- اتخاذ خطوات عملية تدريجية - وأركزّ على التدريجية - من خلال سن قوانين ملزمة كالمنع من التدخين في المدن المقدسة وحافلات النقل العام والدوائر الرسمية أو في أزمنة معينة. والتدريجية في اقتلاع الظواهر السيئة في المجتمع من الدروس المستفادة من سيرة القرآن الكريم في إصلاح البشرية. فمثلاً: بالنسبة للخمر حيث كان من العسير على العرب تحريم الخمر دفعة واحدة لتفشي هذا الداء فيهم بحيث يُشار بالبنان إلى جعفر بن أبي طالب أنه واحد من أربعة حرموا على أنفسهم شرب الخمر في الجاهلية. فتدرج القرآن في بيان الحرمة كما أشرنا إليه في كتاب (شكوى القرآن).
هذا الأسلوب سلكه الشارع المقدس بالنسبة للتدخين حيث منع منه في نهار شهر رمضان، ولاشك أن نجاح الإنسان في ترك التدخين نهاراً كاملاً على مدى شهر كامل يعين المبتلى بالتدخين على تركه وما عليه إلاّ مواصلة هذا الانتصار على نفسه، ويمكن أن يتدرج الإنسان بتحدي نفسه بتقليل التدخين إلى خمس سيكارات في اليوم مثلا ثم إلى اثنين وهكذا، والتحدي يساعد على تفجير طاقة الصبر والصمود والمقاومة، وسيشعر عند الالتزام بلذة الانتصار ونشوته وهي من أعظم اللذائذ التي يستشعرها الإنسان.
إن هذه الخطوات العملية الثلاث متكاملة مع بعضها فالإعلام المكثف لأخطار التدخين على النفس والمجتمع والبيئة والاقتصاد يؤدي إلى ترسخ القناعة، فإذا انضم إليها العزم والإرادة القوية للترك واتخذت خطوات تدريجية للحدّ من هذه الظاهرة فإن النتيجة ستكون حتماً النجاح في القضاء على هذه الحالة السيئة.
محمد اليعقوبي
النجف الأشرف
22 ربيع الثاني 1426
31 آيار 2005
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الكلمة التي أعدها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) وألقاها ممثله في الندوة التي أقامتها مديرية صحة النجف على قاعة رئاسة جامعة الكوفة يوم 22 /4/1426 المصادف 31 /5/2005 بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين، وقد اختار هذا الموضوع بناءً على رغبة المنظمين للندوة، واتخذها سماحته فرصة لإطلاق فتواه المباركة بحرمة بيع وشراء وتناول السكائر الأمريكية والبريطانية والفرنسية لأنها دول معادية للإسلام والمسلمين وأخذت الفتوى صداها الواسع في الشارع.
الأربعاء مارس 28, 2012 10:24 am من طرف وصلى الله على نبينا محمد