مقالة نشرتها وكالة أنباء المستقبل العراقية للصحافة والنشر, (ومع)
كاظم فنجان الحمامي
اغرب ما حملته لنا الأنباء عن تداعيات تسونامي الثورات, ومتوالية الانتفاضات التي تمردت فيها الشعوب العربية على المنظومات الشمولية الجائرة, فعصفت بالنظام التونسي, واقتلعت النظام المصري, وأقضت مضاجع الأنظمة الملتصقة بالعروش والكراسي, أغرب ما حملته لنا هي تلك الاتهامات الغريبة التي استهدفت المتظاهرين والمعتصمين والمعترضين والمحتجين, وكانت في مجملها اتهامات زئبقية باطلة, ليست لها ملامح ثابتة, تتلون كما الحرباوات بتغير ألوان وإحداثيات خطوط الطول والعرض, ومما يزيد من شدة الغرابة إنها وجدت من يؤيدها ويدعمها ويروجها, فانجرف وراءها المؤمنون بأكاذيب السلطات الظالمة, وانساقوا مع اتهاماتها الملفقة, إذ تحركت عندهم النوازع الطائفية, والدوافع القومية, والروابط القبلية, وتوحدت كلها في الذود عن الزعيم الأوحد القائد المفدى الهمام الملهم المجاهد المؤمن الشجاع الضرورة, والانتقام من المتظاهرين وتشويه صورتهم, ومن ثم الانقضاض عليهم بشتى الوسائل الوضيعة, والأساليب الوقحة, حتى لو اضطرت السلطات الجائرة إلى استنفار قطعان الخيول والاستعانة بالبغال والبلطجية وشذاذ الآفاق.
وكان من الطبيعي أن تلجأ السلطات إلى التسلح بالوثائق والملفات والصور والأفلام والشهود والروايات والأدلة المزيفة والمفبركة لدعم موقفها الهزيل, وتعزيز أكاذيبها وأباطيلها وخططها.
كانت البداية في ملاعب زين الهاربين بن علي, عندما اتهمت السلطة (أطرافا خارجية), و(عصابات ملثمة) بإثارة الفوضى والشغب, والإضرار بالأملاك العامة والخاصة, وادعت إن تلك الأحداث وراءها أياد خفية لم تتورع عن تحريض الناس على الشغب, وتشجيعهم على نشر شعارات اليأس الكاذبة وافتعال الأخبار الزائفة, وظهر علينا من يدعم ادعاءات السلطة التونسية.
ثم انتقلت موجة الأباطيل والأعذار إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة, عندما اتهمت حكومة مبارك أطرافا بتقديم الدعم الغذائي للمتظاهرين المناهضين للحكومة, وردد أنصار مبارك هتافات, من مثل: (برادعي قول الحق, أكلتهم ولا لأ), مشيرين الى أن البرادعي يقدم للمعتصمين وجبات (كنتاكي, وبيتزا, وسندويتشات ماكدونالز).
ثم تفجرت التظاهرات في صنعاء وعدن وتعز, فهرعت السلطة للبحث عن سلسلة من الأعذار والتبريرات, وصبت جام غضبها على الجنوبيين, واتهمتهم بالوقوف خلف موجة الاعتصامات, وادعت في تصريحات أخرى: (أن تلك التظاهرات ورائها أجندة خارجية, وأن الحوثيين هم الذراع الداخلي التخريبي لتلك الأجندة الخارجية السوداء).
وما أن اندلعت المظاهرات في المدن الليبية حتى تفتقت قريحة حكومة الدكتاتورية العظمى بحزمة جاهزة من الاتهامات الموجهة ضد المتظاهرين, الذين يقول عنهم سيف الإسلام القذافي: ((أنهم عبارة عن مجاميع من البلطجية والعمال المصريين والتونسيين (التوانسة), ومعهم فئة قليلة من الليبيين الذين يتعاطون المخدرات وأقراص الهلوسة)), فارتكب النظام الليبي أسخف الحماقات, فاستعان بالمرتزقة (الأفارقة) لكبح الثورة الليبية العارمة, واستدعى اللجان (الثورية) بقيادة ابنه المشاكس خميس بن معمر القذافي, ولم يتردد القذافي الأب في ارتكاب المجازر وشلالات الدم, التي خلفها القصف الجوي العشوائي المباشر ضد التجمعات البشرية الهائجة, وبلغ به التهور مبلغا عظيما عندما وصف أبناء الشعب الليبي بالجرذان والفئران والقطط السائبة.
تخندق الناس على امتداد الوطن العربي, كعادتهم عند وقوع المواجهات الحاسمة بين الحق والباطل, فتراوحت مواقفهم بين مناصر للنظام الحاكم, أو مؤيد للشعب المحكوم, وما هي إلا أيام معدودات من الكفاح السلمي حتى ظهر الحق وزهق الباطل, وسقطت الحكومات الظالمة بالضربة القاضية, ووقفت الأغلبية الساحقة من الشرفاء مع الشعوب المقهورة في تونس ومصر واليمن وليبيا, وتكسرت الذرائع والحجج المزيفة على صخور الصمود والتحدي, ولم تصمد طويلا أمام تحديات الفئات المحرومة, وتضحيات الأصوات المكبوتة.
اما بخصوص القضية البحرينية, فالوضع مختلف تماما, طالما أن (الشيعة) هم الطرف المناوئ للسلطة, وعادت بنا عقارب المواقف المنحازة إلى القرون السحيقة, ووقف الإعلام كله مع الحكومة, ضد الشعب المقهور, ثم تفجرت الأوضاع في طهران, وخرج الناس بالآلاف, فتشقلبت المواقف رأسا على عقب, ووقف الإعلام العربي كله مع الشعب الإيراني (الشيعي) في مواجهة الحكومة (الشيعية), وتذبذبت الآراء المنبعثة من براكين الطائفية المقيتة, فاختل توازن الإعلام العربي مرة أخرى وفقد صوابه.
لقد أرهقتنا التصنيفات الطائفية, التي طمست هويتنا العربية والإسلامية, ففقدنا القدرة على التمييز في خضم المواقف المتشنجة, وبدلا من أن نقوم بتعطيل المشاعر القائمة على الكراهية الموروثة, كانت شبكات التواصل الالكتروني تلوك بها صباح مساء, وبدلا من أن تبحث لنا الفضائيات عن سبل التوافق والوئام وغيرها من المقومات ,التي تعيننا في الدفاع عن امتنا الواحدة, نجدها تتمادى في بعثرتنا وتفريقنا وتمزيقنا.
والله لولا عدالة الإسلام ومنهج القرآن المجيد, والسنة النبوية المطهرة لظل الناس أذلاء كحالنا اليوم حتى تقوم الساعة, ولن نرجع كما كنا إلا إذا وصلنا إلى كلمة سواء, ورمينا خلافاتنا القديمة العقيمة خلف ظهورنا. .
الإثنين فبراير 28, 2011 3:47 am من طرف ????