اللبن فؤاده واضراره واقسامه
قسمة جنسية على ثلاثة ضروب
: لان منه الحلو القريب العهد بالخروج من الضرع وهو المسمى بالحليب على الحقيقة . ومنه القوي الحموضة البعيد العهد بالخروج من الضرع وهو المعروف بالدوغ ( 2 ) . ومنه المتوسط بين هاتين المرتبتين وهو المعروف بالماست ( 3 ) ، وبعض الناس يلقبه بالرائب .
فأما الحلو ( 4 )
، فهو في جملته منحرف عن المزاج المعتدل البرودة ( 5 ) إلى الحرارة قليلا ، كأن حرارته متوسطة في الدرجة الأولى أو في الدرجة الثانية . ويستدل على ذلك من عذوبته وقربه من طعم الدم وانتقاله إليه بسرعة . ولذلك صار أقل رطوبة من السمك كثيرا ، وأبعد من توليد البلغم . ولهذا ما صار أفضل غذاء وأقرب من التشبه باللحم وسائر الأعضاء ، إلا أنه مركب من جواهر مختلفة لها قوى متضادة بعضها ملطف جلاء ، وبعضها مغلظ مشدد ، وبعضها ملين مرخ . وذلك أن فيه مائية حادة ملطفة ، وجبنية باردة مغلظة ميبسة ، وسمنية ملينة مرخية . فهو بجوهره المائي الحريف ، صارت له لطافة يلطف بها الفضول ويغسل الأحشاء ويلذع المعاء ويهيج القوة على دفع ما فيها بسرعة . ولذلك صار مطلقا ( 6 ) للبطن . ولهذه الجهة صارت مائية اللبن من أوفق الأشياء لمن احتاج أن ينقص بدنه بما ليس فيه حدة قوية ، مثل من كان في عمق بدنه أو ظاهر جلده فضول ( 7 ) عفنة فاسدة أو فضول حادة كالفضول السوداوية المتولدة عن احتراق الدم والمرة الصفراء ، والفضول الحادثة عن البلغم العفن مثل البثور التي ينقشر لها الجلد . وإنما اختلفت أفعال مائية اللبن لاختلاف مزاج الحيوان الذي يتولد منه ، لان ما كان منها من حيوان أسخن ، مثل اللقاح ( 8 ) ، كان فعله في البثور التي ينفش منها الجلد ، وفى تفتيح سدد الكبد والطحال ، وتلطيف الرطوبات الغليظة المتولدة في جداول الكبد والعروق ، أخص وأولى . ولذلك صار › لبن اللقاح أخص الأشياء بالنفع من الاستسقاء العارض من سدد الكبد والطحال لكثرة مائيته وحدتها . وما كان منها من حيوان أعدل أو أميل إلى البرودة قليلا ، كان فعله في الفضول السوداوية المتولدة عن احتراق الدم والمرة الصفراء ، أوجب وأوكد . ولذلك صار ماء الجبن المتخذ من لبن الماعز نافعا من الجرب والهق والكلف ونزول الماء في العين إذا استعمل في كل علة بما يوافقها من التدبير والعلاج . ومن قبل ذلك ، صار إذا احتقن به ، غسل المعاء ونقاها من الأوساخ الرديئة الفاسدة ، ونظف قروحها من المدة ( 1 ) العفنة . ولجالينوس في هذا فصل قال فيه : متى رأيت قروحا فاسدة مملوءة مدة ، فاغسلها بماء الجبن ، إما بالشرب متى كانت القروح في أعلى البدن ، مثل الصدر وما يليه ، وإما بالحقنة متى كانت القروح في أسفل البدن ، مثل المعاء وما يليها . ولهذه الجهة ، صار كل لبن مائيته أكثر ، فهو أسلم الألبان وأقلها غائلة وإن أدمن استعماله ، لأنه يبعد من تولد الدم الغليظ كثيرا . ولذلك قال جالينوس : أن ما كان من الألبان رقيقا مائيا شبيها بلبن الأتن ( 2 ) والخيل ، فهو غير مولد للدم الغليظ . ولهذا ما صارت هذه الألبان غير مضرة بأصحاب التدبير الملطف . وما كان من الألبان جبنيته أكثر من مائيته ، مثل لبن البقر والنعاج ، فأنه يولد دما غليظا وإن كان لبن البقر بذلك أخص لقلة مائيته بالطبع . وما كان من الألبان معتدلا في جواهره الثلاثة ، مثل لبن النساء وبعده لبن الماعز ، فإنه يولد دما معتدلا فاضلا . ولذلك اختارت الأوائل اتخاذ ماء الجبن من لبن الماعز خاصة . وقد يختلف ماء الجبن في تأثيره وفعله على حسب الشئ الذي يستخرج به ، لان منه ما يستخرج بالاسكنجبين . ومنه ما يستخرج بلب القرطم . ومنه ما يستخرج بالماء البارد أو بالرماد الحار . ومنه ما يستخرج بماء التمر هندي . فما كان منه مستخرجا بالاسكنجبين ، أفاده الاسكنجبين زيادة في التلطيف والتنقية يقوى بها على تفتيح سدد الكبد والطحال وتنقية الجلد من البثور والقوباء ( 3 ) الكائنة عن الدم المحترق ، والنفع من نزول الماء في العين . وما استخرج بلب القرطم ، اكتسب من لب القرطم حرارة وحدة يقوى بها على تنقية البلغم العفن ، والنفع من الحميات البلغمانية المتطاولة ، وتنقية ظاهر البدن من البثور المتولدة عن البلغم المالح . وما استخرج منه بالماء البارد أكسبه الماء رطوبة وبرودة يقوى بها على تسكين حرارة المعدة والتهابها ، وقطع العطش المتولد عن حدة المرة الصفراء . وكذلك ما استخرج بماء التمر هندي يفعل مثل هذه الأفاعيل ، إلا أنه يكون أشد تقطيعا للفضول وإطلاق البطن وتنقية المعدة والمعاء لما يكتسبه من قوة التمر هندي . وأما ما يحمل من اللبن على الرماد الحار حتى يغلى ويجمد ويتجبن ، ويستخرج ماؤه منه ويستعمل ، فإنه قريب من ماء الجبن المستخرج بالماء البارد ، إلا أنه أكثر تلطيفا وتجفيفا وأقل تسكينا للعطش كثيرا . وأما جوهر الزبد ، فهو في طبيعته حار لين كثير اللزوجة واللدونة ، كأنه في مزاجه شبيه ( 1 ) بمزاج بدن الانسان أو أقرب إلى مزاج الزيت العتيق في حرارته فقط ، لا في يبسه ، لأنه في اليبس مخالف له كثيرا ، لان الزيت في طبيعته يابس ( 2 ) وبخاصة متى كان عتيقا . والزبد في طبيعته لين ( 3 ) وبخاصة متى كان حديثا . ولذلك صار الاكثار منه يرخي المعدة ويلين البطن . ولهذا نسبته الأوائل إلى طبيعة الشحم المذاف بالدهن ، وذكروا أنه متى أخذه من كان محتاجا إلى أن ينفث من صدره ورئته شيئا عند الأورام المتولدة فيها أو في الغشاء المستبطن للأضلع ، أعان على ذلك ونفع منفعة بينة لان من خاصته أيضا إنضاج الرطوبات وتحليلها . إلا أنه متى استعمل وحده ، كانت ( 4 ) معونته على الانضاج أكثر ، وعلى النفث أقل . ومتى استعمل مع العسل أو السكر ، كانت معونته على الانضاج أقل ، وعلى النفث أكثر . ومتى طبخ الزبد ونزع ما فيه من يسير مائية اللبن وصار سمنا ، كانت لزوجته ودهنيته أكثر ، وقوي على تحليل الأورام الخاسئة ولين خشونة الأعضاء . وقد يستدل على ذلك من تليينه البشرة إذا مسح على الجلد من خارج . ولهذا السبب بعينه ، صار مضرا بالمعدة اضرارا بينا لأنه يلين خشونتها ويذهب بخاصتها التي بها تقوى على هضم الطعام وبخاصة متى كان مزاج صاحبها بلغمانيا . وأما جوهر الجبن ، فهو بالإضافة إلى سائر جواهر اللبن ، بارد ، يابس ، غليظ الخلط ، عسير الانهضام ، بعيد الانحدار عن المعدة . ولذلك صار بحبس الطبيعة أولى منه بتليينها . فإذا استحكم نضجه في المعدة ، كان الخلط المتولد عنه غليظا عسير الانهضام في الكبد . ولذلك صار الاكثار منه غير مأمون ولا موثوق به ، لأنه من أخص الأشياء بتوليد السدد والغلظ العارض في جداول الكبد وعروق الطحال ومجاري الكلى ولا سيما متى وافى هذه المواضع مستعدة لقبول ذلك منه ، مثل أن تكون عروقها ومجاريها ضيقة بالطبع ، لأنها متى كانت كذلك ، كانت متهيأة لقبول السدد ضرورة ، وبخاصة متى استعمل بالعسل ، لان العسل يكسبه لذاذة تميل إليها الأعضاء وتقبله وتجذب إليها منه أكثر من مقدار القوة على هضمه . فإن وافى مع ذلك حرارة الكلى مجاوزة للمقدار المعتدل ، إما من طبيعتها وإما لعارض عرض لها ، تخزف فيها وتولد منه حجارة وحصى . فقد بان واتضح أن اللبن في جملته محمود ( 5 ) من جهة ، ومذموم ( 5 ) من جهة . فأما الجهة التي يحمد فيها ، فتكون على ضربين : أحدهما : أنه إذا جاد انهضامه في المعدة والكبد ، غسل المعاء بما فيه من لطافة المائية وحدتها ، ونقى فضولها ، ودفع بسمنيته السم القاتل ، ولين الأعضاء ، وذهب بخشونة › العين إذا اكتحل به ، وحلل أورامها ، ونفع بجبنيته من قروح الصدر والرئة والحلقوم وقروح الكلى والمثانة والمعاء ، وسكن لذع الأخلاط الحريفة المتولدة في المعاء ، لأنه يلتف بالاحشاء ويحول بين الاخلاط وبين التمكن منها . ولذلك صار متى استعمل مع بعض الأدوية القابضة ، كان دواء فاضلا نافعا من الزحير ( 1 ) واختلاف الأغراس وبخاصة متى شوي بالحجارة المدورة الملساء المحماة حتى تذهب مائيته وحدته . وأفضل من الحجارة لمثل ذلك ، قطع الحديد الفولاذ المدورة التي لها مقابض تمسك بها . وإن ألقي على اللبن مثله ماء عذب ( 2 ) وألقيت فيه القطع الحديد المحماة دائما حتى يذهب ما ألقي عليه من الماء ، كان أفضل لأنه ليس يكره من ماء اللبن مائيته فقط ، لكنه قد يكره منه أيضا حدته التي بها يطلق البطن . وإن ردد الماء عليه مرارا وشوي في كل مرة حتى يذهب ما ألقي عليه من الماء ، كان أكثر لزوال حدته وحرافته وصار أفضل وأحمد ، لما يقصد به من علاج الاسهال والزحير ، وتقوية المعاء وتسكين لذع الأخلاط الحادة . والجهة الثانية التي لها يحمد اللبن ، أنه لما كان مادة وغذاء للحيوان المشاء ، وجب أن يكون أعدل الأغذية وأقربها من الانقلاب إلى الدم وأسرعها تشبها باللحم وسائر الأعضاء إذا استعمل على ما ينبغي أعني على نقاء من المعدة واعتدال من المزاج ، وفى وقته الطبيعي . أريد بالوقت الطبيعي ، الزمان الذي هو في غاية من الاعتدال القريب في مزاجه من طبيعة اللبن ، مثل زمان الربيع الطبيعي إذ كان أعدل الأزمنة وأكثرها توسطا للكيفيات الأربع . وقد بين ذلك جالينوس وفرق بين مزاج الربيع الطبيعي ومزاج الربيع غير الطبيعي في كتابه المعروف بكتاب ( المزاج ) . فإذا استعمل اللبن على غير نقاء من المعدة ، أو على غير اعتدال من مزاج بدن المستعمل له ، أو في زمان غير معتدل ، تغير بسرعة وانتقل إلى الدخانية وجنس المرار فيمن كان مزاجه محرورا ، وإما إلى الحموضة وجنس العفونة فيمن كان مزاجه باردا . وكثيرا ما يعرض ذلك إما دائما وإما الحين بعد الحين ، لأنه إن كان ، إنما يعرض من قبل أن جوهر المعدة أو مزاج البدن بأسره قد تغير وحاد عن الاعتدال ، لزم اللبن التغيير والاستحالة دائما . وإن كان إنما يعرض ذلك لما يوافيه في جرم ( 3 ) المعدة من أغذية قد تقدمته ، أو فضل مري أو بلغماني كان ، إنما يقع تغييره واستحالته عند موافاته تجويف جرم المعدة ممتلئا إما من غذاء متقدم ، وإما من فضول رديئة . ومن قبل ذلك قال جالينوس : إن اللبن ، وإن كان في جوهره ومزاجه محمودا فاضلا للطافته وسرعة استحالته وانقياده للانفعال ، فإن كثيرا ما يعرض له من اختلاف حالات المعدة أن يتجبن فيها ، وينتقل إلى الدخانية وجنس المرار أحيانا ، أو يلزمه ذلك دائما ، أو يحمض وينتقل إلى جنس البلغم العفن أحيانا ، أو يلزمه ذلك دائما . وذلك يكون على اختلاف الأسباب الفاعلة لهذين العرضين من قبل ‹ أن الحموضة إنما تحدث دائما عن نقصان الحرارة وغلبة الرطوبة والدخانية فتحدث عن قوة الحرارة ونقصان الرطوبة . وإنما اجتمع في اللبن الانقلاب إلى هذين العرضين على اختلاف أسبابهما وتضادهما من قبل ما بيناه آنفا ، وقلنا : إن اللبن مركب من جوهر مائي حريف وجوهر جبني غليظ وجوهر سمني لطيف . فهو للطافة سمنيته وقربها من جوهر النار ، يستحيل بسرعة إلى الدخانية وجنس المرار إذ كان السمن بالطبع مادة وغذاء للحرارة دائما ، ولغلظ جبنيته وقربها من ترابية الأرض ، استحال إلى الحموضة وجنس العفن . ولذلك وجب إلا يستعمله إلا من كان مزاج بدنه معتدلا وتجويف معدته خاليا نقيا من الأغذية والمواد المرية والبلغمانية ، لأنه متى سلم من هذه الأسباب وانهضم على ما ينبغي ، غذى غذاء كثيرا وولد دما محمودا وأفاد ظاهر البدن ليانة ونضارة . ولروفس في شرب اللبن قول قال فيه : وينبغي لشارب اللبن أن يصير شربه له على الريق وهو حار حين يحلب بحرارته التي بها يخرج من الضرع من غير أن يتقدمه غذاء غيره ، ويمتنع بعد شربه من كل ما يؤكل ويشرب إلى أن يتم هضمه حسنا ، وينحدر عن المعدة ، لأنه إن خالطه في المعدة شئ ، أي شئ كان ، استحال وفسد بسرعة . وينبغي لشاربه أن يحذر التعب وإفراط الحركة ، لان الحركة متى وافت من القوة الماشلة ( 1 ) التي في المعدة أدنى ضعف ، أزعجت اللبن وأحدرته بسرعة قبل تمام هضمه . وإن وافت القوة قوية وتعذر انحدار ( 2 ) اللبن من المعدة ، حمي بقوة الحركة واستحال ، إما إلى الدخانية وجنس المرار فيمن كان مزاج ( 3 ) معدته حارا ، أو إلى ( 4 ) الحموضة والعفونة فيمن كان مزاج معدته باردا . ولا ينبغي أيضا أن يتخلف عن المشي جملة كيلا يطفو اللبن بلطافته ويعوم في المعدة ويبعد عن موضع النضج . ولكن يتمشى قليلا برفق على أشياء وطيئة تنخفض تحت رجليه لينحدر اللبن إلى قعر المعدة الذي هو موضع الطبخ ، وتتمكن الحرارة الغريزية من هضمه على ما ينبغي . فإذا انحدر عن المعدة ، تناوله ثانية وامتثل في التدبير الفعل الأول من الحركة اليسيرة برفق . فإذا انحدر أيضا عن المعدة ، تناوله ثالثة وامتثل في التدبير الرسم الأول والثاني ، لان اللبن في ابتداء أمره يسهل البطن إسهالا نافعا بما فيه من الجوهر المائي اللطيف . فإذا ضعفت قوة فعل الجوهر المائي ، فعل بجوهره الجبني ومنع الاسهال وأخذ في تربية البدن وزيادة اللحم من ذي قبل . ذلك لان اللبن إذا انهضم انهضاما تاما كاملا ، ولد دما صحيحا محمودا لذيذا عند الطباع . والمختار من اللبن ما اجتمعت فيه خصال أربع : إحداهن : من لونه . والثانية : من رائحته . والثالثة : من قوامه . والرابعة : من طعمه . فأما ما له من لونه ، فهو أن يكون أبيض صافيا نقيا سليما من الصفرة والحمرة والكمودة . وأما رائحته ، فيجب أن تكون ذكية سليمة من العفونة والزفورة . وأما قوامه ، فيجب أن يكون معتدلا متوسطا › بين الرقة والغلظ ، إذا نقط المرء منه على ظفره أو على مرآة ، بقيت أجزاؤه مجتمعة غير سيالة ولا مياعة ، بل يكون لها قاعدة مسطوحة وأعلى محدودب . وأما طعمه ، فيجب أن يكون عذبا لذيذا سليما من المرارة والملوحة والحموضة . وأفضل الألبان في طبيعته وجوهريته ولطافته ، لبن النساء . وبعده في ذلك ، وإن كان غير قريب منه ، لبن الأتن . وأدسم الألبان وأكثرها غذاء ، لبن البقر . وبعده لبن الضأن . وأكثر الألبان جبنية ، لبن الضأن . وبعده لبن البقر . وأكثر الألبان مائية ، بين سائر الحيوانات لبن اللقاح . وبعد لبن اللقاح ، لبن الخيل والأتن . وأعدل الألبان وأكثرها توسطا بين الجواهر الثلاثة ، لبن النساء . وبعده لبن الماعز . والسبب في ذلك أن كل لبن من الألبان ينصرف إلى طبيعة الحيوان الذي هو منه ، ومزاجه . فما كان منه من حيوان أغلظ ، كان غليظا . وما كان منه من حيوان ألطف ، كان لطيفا . ولذلك ، صار لبن البقر أغلظ الألبان وأذمها ، وأكثرها غذاء وأقواها تبريدا للأبدان وأشدها تقوية للأعضاء . ولبن اللقاح أرق الألبان وأقلها دسما ( 1 ) وأيسرها غذاء ( 1 ) وأكثرها إسخانا ( 1 ) للأبدان وتفتيحا ( 1 ) للسدد ، من قبل أن النوق في طبيعتها قوية الحرارة جدا . فحرارة مزاجها تستعمل أكثر دهنية دمها في غذائها . وإذا قل ما في الدم من الدسم ، قل ذلك أيضا في اللبن ، لان اللبن إنما هو دم منطبخ طبخا ثانيا . ولذلك صار في لبن النوق ملوحة وحرافة يقوى بها على تلطيف الأثفال وتقطيع غلظها . وأما لبن البقر ، فهو بعكس ذلك وضده ، لأنه لما لم يكن في حرارة مزاج البقر من القوة ما يحتاج أن يستعمل دسم اللبن في غذائها ، صار أكثر الألبان سمنا وزبدا وأزيدها غذاء . ورقة لبن اللقاح وكثرة مائيته ، إنما صارت له لكثرة حرارته الغريزية واستعمالها أكثر دسم لبنه في غذائه . فإن قال : وكيف صار لبن الضأن أكثر جبنية من لبن البقر ، ولبن البقر أغلظ وأدسم وأكثر غذاء ؟ قلنا له : لان لبن الضأن لما كان أسخن وأقوى حرارة بالطبع ، احتاجت حرارته إلى غذاء أكثر ، وأفنت دسم اللبن في غذائها . ولذلك نقصت سمنيته ، ووقل غذاؤه ، وكثرت جبنيته . وأما لبن البقر ، فإنه لما كان أقل حرارة بالطبع ، اكتفت حرارته الغريزية بالقليل من الغذاء ، ولم يأخذ من دسم اللبن إلا اليسير . ولذلك زادت سمنيته على جبنيته وكثر غذاؤه ، من قبل أن جوهر الدسم أخص بتغذية الأبدان من جوهر الخبز ، لأنه أكثر حرارة ورطوبة ، وأقرب من طبيعة الدم وأسرع إلى الانقلاب إليه . وقد أجمع الأوائل ، ووافقهم على ذلك العيان ، بأنه لا شئ أكثر تغذية للأبدان مما كان سريع الانقلاب إلى الدم . فإن عارضنا معترض بالشحم وقال : فلم لا كان الشحم أسرع انقلابا إلى الدم ، وأكثر تغذية للأبدان من اللبن ، إذ كان أخص بالدهنية وأوحد بالدسم من سائر الأغذية ؟ . قلنا له : إن الشحم ، وإن كان أوحديا بالدهنية والدسم ، فإن ليس فيه جوهر مائي لطيف يلطفه ويسيله ( 1 ) ويعين على سرعة انقياده وانهضامه وجولانه في البدن . ولذلك غلظ وعسر انهضامه وانقياده لفعل الطباع وبعد انقلابه إلى الدم . وأما اللبن ، فلما كان فيه جوهر مائي سيال ملطف للفضول يسير حرافته ، زال عنه أكثر غلظه ولطف وسهل انهضامه وانقلابه إلى الدم وغذى غذاء حسنا . وقد يستدل على ذلك من الجبن والسمن ، فإنا نجدهما إذا فارقتهما مائية اللبن ورطوبته السيالة اللطيفة ، عسر انهضامهما ، وبعد انقلابهما إلى الدم ، وقل غذاؤهما . ولذلك صار الأفضل لمن أراد شرب اللبن ، لزيادة اللحم ، أن يشربه بجملة جواهره الثلاثة ، أعني بمائيته وزبدته وجبنيته من غير أن يزيل منها شيئا ، ويقصد من الألبان لبن البقر ، وبعده لبن الضأن والماعز . ومن أراد شرب اللبن لتسكين الحرارة وتبريد المزاج وتطرية الكبد ، فليزل ( 1 ) عنه زبده وسمنه ويشرب منه مائيته وجبنيته ، ويقصد من الألبان لبن البقر فقط . ومن أراد أن يشرب اللبن لتلطيف الفضول وتنفيثها ، فليزل ( 2 ) عنه زبده وجبنيته ويشرب منه مائيته فقط ، ويقصد من الألبان لبن اللقاح لمن كان مزاجه باردا ، ولبن الماعز لمن كان مزاجه محرورا . وكذلك ، إن الألبان تنقسم في لطافتها وغلظها على خمسة ضروب : لان من اللبن اللطيف جدا . ومنه ما هو دون اللطيف قليلا . ومنه الغليظ جدا . ومنه ما هو دون الغليظ . ومنه المعتدل المتوسط بين اللطافة والغلظ على الحقيقة ، لان بعده من الحاشيتين جميعا بعدا متساويا ولطافة اللبن تنتظم بمعنيين : أحدهما : من طبيعته وجوهريته ، والآخر : من فعله وتأثيره . فأما اللطيف من طبيعته وجوهره فهو المشاكل لبدن الانسان بالطبع ، مثل ألبان النساء ، وبعدها ألبان الماعز . ولذلك صارت ألبان النساء أعدل الألبان وأحمدها وأغذاها وأكثر نفعا من السمائم القاتلة وأوجاع الحجاب وقروح الرئة والكلى والمثانة ، وبخاصة إذا امتص من الضرع مصا من غير أن يحلب ، فيباشره الهواء ويزيل عنه بعض حرارته الغريزية ، فيغلظ ويتغير . وأما اللطيف من فعله وتأثيره ، فهو ما قلت جبنيته وزبديته وكثرت مائيته وحدته الملطفة للفضول ، مثل لبن اللقاح . وقد يستدل على ذلك من ملوحة طعمه ، ولذلك صار أقل الألبان غذاء وأكثرها تلطيفا للفضول ، ومن قبل ذلك صار أكثر الألبان تفتيحا لسدة الكبد والطحال وأخصها بالنفع من الاستسقاء العارض من فساد مزاج ( 3 ) الكبد والطحال الكائن من البرودة والرطوبة . وحكى بعض المتطببين ( 4 ) في كتبه أنه نافع من فساد مزاج الكبد والطحال العارض من الحرارة . وزعم أن ذلك صار فيه لفضل رطوبته ومائيته ، ولعمري لولا ما فيه من الحدة والملوحة ، لأمكن أن يكون ذلك . وقد امتحناه عدة مرار ، فلم نجد له فيما ذكر أثرا محمودا . واللبن الغليظ جدا ، فهو ما كان في طبيعته على نهاية البعد من المعتدل ، مثل لبن البقر ، لأنه أقل الألبان مائية وأكثرها زبدية وجبنية ، خلا لبن الضأن فإنه أكثر في الجبنية فقط على ما بينا . ويستدل على كثرة جبنية لبن الضأن من كثرة زهومته ، كما قال جالينوس : وفى لبن الضأن زهومة ليس في لبن البقر مثلها . ولذلك صار أميل إلى البلغم . وله قول في لبن البقر قال فيه : إن لبن البقر أقل الألبان مائية وحدة ، وأكثرها غذاء وتربية للحم ، وموافقة للمعدة ، وتقوية للأعضاء ، وتسكينا ( 3 ) للحرارة ، وبخاصة حرارة الكبد والمعدة . ومن خاصته ، إنه إذا نزع زبده وشرب ، برد المزاج وسكن لذع الأخلاط الحريفة وقوى الحرارة الغريزية وعدلها وزاد في اللحم زيادة بينة ومنع الاسهال المري ونفع من الزحير الصفراوي وقروح الأمعاء والمثانة والأرحام . وأفضل ما استعمل لهذا الشأن ، إذا نزع زبده وألقي عليه مثله ماء عذب وطبخ حتى يذهب الماء ويبقى اللبن ، لان الماء يزيل عنه أكثر حدة مائيته وحرافتها ويكسبه برودة ورطوبة يقوى بها على تسكين الحرارة وتربية اللحم . وإذا ردد الماء عليه مرارا ، وطبخ في كل مرة حتى يذهب الماء الذي ألقي عليه ، كان ما يزول عنه من الحدة أكثر ، وزاد ذلك في تبريده للأبدان وترطيبه لها . فإن لم يلق عليه ماء ولم يطبخ ، لكن ألقي فيه فخارة محماة أو قطع الحديد الفولاذ المحماة ، ورددت فيه مرات كثيرة حتى تذهب مائيته الطبيعية ، قل تبريده وترطيبه ، وقوى فعله في قطع الاسهال والزحير وتقوية الأعضاء . وأما اللبن المعتدل المتوسط بين اللطافة والغلظ ، فهو الذي قد تساوت فيه الجواهر الثلاثة ، أعني جوهره المائي والجبني والسمني ، مثل لبن الماعز ، فإنه قد تكافأت فيه جواهره الثلاثة ، ولذلك صار بعد لبن النساء أعدل الألبان وأخفها على المعدة . ومن قبل ذلك صار متى طبخ حتى يذهب منه النصف ، وشرب بسكر طبرزد ، نفع من قروح الرئة والكلى والمثانة . فإن نزع زبده وألقي عليه ماء وشوي بالحجارة المحماة أو بقطع الحديد المحماة حتى يذهب الماء ويبقى اللبن ، نفع من إسهال الأغراس وقروح الأمعاء . وأكثر ما يشرب منه رطل . وينبغي للمستعمل له أن يحذر أن يتجبن في معدته ، لأنه إن تجبن لم يؤمن عليه أن يحدث ثقلا في المعدة ، وبخارا يترقى صعدا ، ويتولد عنه اختناق شديد وضيق نفس . فمتى تجبن ، فيجب أن يقطع شربه ، ويشرب من العسل أوقية ، أو أوقية ونصف مع شئ من ملح هندي . وأما اللبن الذي هو دون اللطيف ، فهو المتوسط بين اللطيف جدا والمعتدل على الحقيقة مثل < لبن > الأتن ، وبعده لبن الخيل ، فإنها متوسطة بين لبن اللقاح ولبن الماعز ، من قبل أنها أقل مائية وحدة ‹ من لبن اللقاح وأكثر في ذلك من لبن الماعز ، وإن كان بين لبن الخيل ولبن الأتن فرقانا بينا ، من قبل أن لبن الخيل أسخن وأقرب من طبيعة لبن اللقاح ، ولبن الأتن أعدل وأقرب من طبيعة لبن الماعز . ولذلك صار لبن الأتن ألذ طعما وأعذب من لبن الخيل واللقاح جميعا . ومن خاصته أنه للطافته وقلة جبنيته ، صار إذا شرب وهو حار وقت يحلب ، لم يتجبن في المعدة كما يتجبن لبن الماعز كثيرا ، وإن ألقي عليه شئ من عسل وشئ من ملح ، لم يتجبن أصلا ، حليبا كان أو غير حليب . ولذلك صار ألطف من لبن الماعز وأقرب من لبن النساء في اللطافة فقط ، لا في الاعتدال ، من قبل أن لبن الماعز أخير غذاء وأقرب من لبن النساء في الاعتدال والتوسط . ولهذا السبب صار لبن الأتن مطلقا للبطن ، ملينا لجميع الأعضاء العصبية إذا كان سبب خشونتها الحرارة واليبس . ومن قبل ذلك صار مخصوصا بتسكين البهر ( 1 ) والربو والسعال العارض من النوازل الحريفة ، ولا سيما إذا شرب من الضرع إن لم تعافه النفس . وهو مع ذلك نافع من قروح الصدر والكلى والمثانة . فقد بان ، مما قدمنا إيضاحه ، أن أعدل الألبان وألطفها مزاجا وأحمدها غذاء ، ألبان النساء ، وبعدها في اللطافة ألبان الأتن . وأما في الاعتدال وجودة الغذاء ، فألبان الماعز بعد ألبان النساء . ذلك لاعتدالها وتكافؤ الجواهر الثلاثة فيها . وأما لبن الخيل ، فلقربه من لبن اللقاح في اللطافة ، صار فيه تلطيفا في فعله ، يقوى به على تفتيح أوراد الأرحام وإدرار الطمث متى كان سبب انقطاع الطمث الحرارة واليبوسة . وهذه الخاصة لازمة له دون غيره من الألبان . وأما اللبن الذي هو غليظ قليلا ، فهو المتوسط بين الغليظ جدا وبين المعتدل على الحقيقة ، مثل ألبان الضأن المتوسط بين لبن البقر ولبن الماعز ، لأنه أقل مائية وأكثر جبنية وسمنية من لبن الماعز ، وأقل سمنية وأكثر مائية وجبنية من لبن البقر . ولذلك صار أكثر غذاء من لبن الماعز ، وأعون على حبس البطن ، وأقوى فعلا في الاسهال وقروح الرئة والكلى والمثانة ، وأظهر تأثيرا في الزحير واختلاف الدم والأغراس ، إلا أنه دون لبن البقر في كثرة الغذاء وحبس البطن كثيرا ، لما فيه من زيادة المائية على لبن البقر . ولجالينوس في هذا فصل قال فيه : إن لبن البقر أقوى الألبان على حبس البطن ، وبخاصة متى نزع زبده وشوي بالحجارة المحماة أو بقطع الحديد المحماة . ودونه في ذلك لبن النعاج . وقد يقع في الألبان اختلاف كبير من وجوه أربعة : أحدها : مزاج الحيوان الذي هو منه . والثاني : غذاء الحيوان ومرعاه . والثالث : اختلاف أوقات السنة . والرابع : طراء اللبن وقدمه . فأما اختلافه من قبل مزاج الحيوان الذي هو منه ، فيكون على ضروب ثلاثة : لأنه متى كان من حيوان أعدل مزاجا وأخصب لحما ، كان أفضل لأنه يولد دما محمودا وبخاصة متى شرب من الضرع أو حين يحلب قبل أن يغيره الهواء . ومتى كان من حيوان أردأ مزاجا وأسقم بدنا وأهزل لحما ، كان أذم وأفسد غذاء ، لأنه يولد دما مذموما فاسدا ، وبخاصة متى كان شربه بعد خروجه من الضرع بمدة أطول . وأما اختلاف اللبن من غذاء الحيوان ومرعاه ، فيكون أيضا على ضروب : وذلك أن من الحيوان ما يرعى الحشيش الغض الطري . ومنه ما يرتعي الحشيش اليابس وأغصان الأشجار الرطبة . ومنه ما يرتعي الحشيش العفص القابض ، مثل القرظ ( 1 ) والبلوط وقشور أصول شجر السماق . ومنه ما يرتعي الأدوية المسهلة ، مثل السقمونيا ( 2 ) وبعض اليتوعات ( 3 ) وأصل النبات المعروف بقثاء الحمار وما شاكل ذلك .
فما كان منه يرتعي الحشيش الغض الطري ، كان لبنه أرق وأكثر مائية وأعون على تليين البطن وأردأ للمعدة . وما كان منه يرتعي الحشيش الجل ( 4 ) وأغصان الأشجار الرطبة ، كان لبنه أعدل وأقل مائية وأبعد من تليين البطن وأوفق للمعدة . ولذلك صار لبن الماعز أوفق للمعدة من غيره من الألبان ، لان أكثر ما يرتعي الماعز الحشيش وأغصان الأشجار الرطبة . وإذ ذلك كذلك ، فمن البين أن كل لبن يرتعي حيوانه أغصان الأشجار القابضة أو أوراقها ، فإنه مقو للمعدة حابس للبطن . وكل لبن يرتعي حيوانه ورق الأشجار المسهلة ، فإنه مضر بالمعدة ، لذاع ، بعضها مطلق للبطن . ولذلك وجب أن لا يستعمل من اللبن إلا ما كان غذاء حيوانه محمودا ، كيلا يستحيل إلى الفساد بسرعة ، من قبل أن اللبن إذا كان في ذاته رديئا واستحال في المعدة إلى الفساد ، لم يفسد هو فقط ، لكن يفسد بفساده كل ما وافاه في المعدة من الأخلاط المحمودة ، ويضر بالبدن ( 5 ) إضرارا بينا قويا . ولجالينوس في هذا فصل قال فيه : إن اللبن الردئ ليس أن ما يفسد هو فقط ، لكنه يفسد معه كل كيموس حسن . وذكر أنه وقف على ذلك من صبي كان له طير ترضعه ، فماتت طيره تلك وأرضعته طير أخرى كان لبنها رديئا جدا ، من قبل أن غذاءها كان مذموما ، لأنها كانت تغتذي عشب البرية لجوع عرض لبلدتها في زمان الربيع . فامتلأ الصبي قروحا ، فاستدل على ذلك من اللبن الذي كان الصبي يشربه . إنه نظر إلى جميع من كان يغتذي بذلك العشب الذي كانت الطير تغتذي به ، قد امتلأت أبدانهم قروحا فاسدة . ولذلك صار ما يرتعي الماعز ورق القرظ والبلوط وأغصان شجر السماق ، فيصير لبنها مقويا للمعدة حابسا للبطن . وكثيرا ما يرتعي شجر السقمونيا واليتوع فيصير لبنها مضرا بالمعدة مطلقا للبطن . › وأما اختلاف اللبن على حسب أوقات السنة ، فيكون على ضروب ، من قبل أن اللبن في أول الربيع ، يكون أكثر ذلك أرق وأشبه بالماء . وفى آخر الربيع وأول الصيف ، يكون أعدل وأفضل غذاء . وفى سائر الصيف وأول الخريف يكون أثخن وأغلظ وأقل مائية . والسبب في ذلك : أن اللبن في أول الربيع يكون أكثر ذلك قريبا من وضع الحيوان جملة . وكل لبن يقرب من وضع الحيوان جملة ، فهو أرق وأكثر مائية لاجتماع الرطوبات في أبدان الحيوان في مدة زمان الحمل ، لانطباق الرحم وامتناع التحلل منه . وإذا اجتمعت الرطوبات في أبدان الحيوان في زمان الحمل ، وجب أن يكون اللبن بالقرب من وضع الحيوان جملة أكثر مائية بالطبع ، وأضر بالمعدة ، لأنه يرخيها ويفسدها ويهيج القئ والغثاء ويلين خشونتها ويزلقها ويطلق البطن . فإذا مضى أربعون يوما وتوسط الربيع ، أو صار إلى آخره ، ودخل الصيف ، فنيت تلك الرطوبات الفضلية من أبدان الحيوان واعتدل اللبن وانقاد للانفعال ، وقويت الحرارة الغريزية على هضمه في الضرع وصار محمود الغذاء مربيا للأبدان . وإذا تمادى به الزمان وصار إلى آخر الصيف وأول الخريف ، قوي حر الهواء على الأبدان ونشف بعض رطوباتها الجوهرية ، وازدادت رطوبة اللبن قلة ، وغلظ ، وزال عن الاعتدال وصار مذموما غليظا بطئ الانهضام ، حابسا للبطن لقلة مائيته وكثرة جبنيته . ولذلك صار هذا النوع من اللبن كثيرا ما يتجبن في المعدة ، ويحدث أمراضا خبيثة ، لان اللبن المتجبن في المعدة مع إضراره بها ، يولد بخارات تترقى صعدا ، ويكون سببا وكيدا للاختناق وضيق النفس والصداع . فإن زاد الزمان به تماديا ، وصار إلى الخريف وآخره ، ازدادت رطوبته الجوهرية قلة ، وصار في طبيعة اللبأ ( 1 ) . ثم لا تزال رطوبته تتحلل رويدا رويدا حتى تقارب الفناء ويغلظ ( 2 ) ويجفو عن الانمياع والسيلان وينقطع أصلا . ولهرمس في مثل هذا فصل قال فيه : إن أرطب ما يكون اللبن عند وضع الحيوان جملة ، ثم تنقص رطوبته قليلا قليلا حتى تقارب الفناء ، فيغلظ ويصير في طبع اللبأ . فإن عارضنا معترض باللبأ وقال : فلم صار اللبأ أغلظ الألبان وأقلها رطوبة ، وهو أقربها من وضع الحيوان جملة ، وقد شرطت في ابتداء كلامك أن أرطب الألبان ما كان قريبا من وضع الحيوان جملة ! . قلنا له : إن اللبأ يطول لبثه في الضرع ويقيم مدة يتهيأ معها فناء رطوبته الفضلية وأكثر رطوبته الجوهرية حتى يجاوز المقدار في الغلظ . ولو توهمنا أن اللبأ يخرج من الضرع وقتا يصير إليه أو بعده بيوم ، لما أمكن أن نجده إلا أرق الألبان وأكثرها مائية . ولكن لطول لبثه في الضرع ، يقوى فعل الحرارة الغريزية فيه باطنا ، وحرارة الهواء ظاهرا ، وتقل رطوبته حتى تقارب الفناء ، ويصير أغلظ الألبان وأثقلها . ولذلك صار إذا حمل على رماد حار أو طبخ في قدر داخل قدر ، فنيت رطوبته بسرعة وصار جبنيا . وإذا خلط معه لبن آخر وشوي أو سلق ، أجمد ما يخالطه من اللبن وعمل فيه أكثر من عمل الإنفحة ( 1 ) ، لان الإنفحة إذا أجمدت اللبن ، ميزت مائيته من جبنيته ، ولا يصير منه مشا ( 2 ) . وأما اختلاف اللبن على حسب قرب خروجه من الضرع أو بعده منه ، فيكون على ثلاثة ضروب ، لأنه قد تقدم من قولنا إن مدة اللبن تنقسم ثلاثة أقسام : لان منه القريب العهد بالخروج من الضرع وهو المعروف بالحليب . ومنه البعيد العهد بالخروج من الضرع وهو المعروف بالدوغ . ومنه المتوسط بين هاتين الحاشيتين وهو المعروف بالماست ، أعني الرائب . فأما الحليب القريب العهد من الخروج من الضرع ، فهو أقوى الألبان حرارة وأكثرها توسطا واعتدالا في الكيفيات الأربع ، لأنه بعد قريب ( 3 ) من طبيعة الحيوان الذي هو منه . ولذلك صار بالإضافة إلى غيره من الألبان ، أفضل وأحمد غذاء وأكثر تربية للحم إذا استعمل على ما ينبغي من خلاء المعدة من الغذاء ، ونقائها من الفضول مع اعتدال مزاج المستعمل له ، إذا لم يؤخذ منه إلا المقدار القصد ( 4 ) ، لان الاكثار منه يحدث أحد أمرين : إما أن يتجبن في المعدة ويؤلمها ويضر بها ، ويحدث بخارات تكون سببا للاختناق وضيق النفس والبهر ( 5 ) . وإما ألا يتجبن ، لكنه يستحيل إلى الحموضة ويضر بالجنبين وسائر البطن . والسبب في ذلك : اختلاف حالات المعدة وموضعها من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، لان المعدة متى كانت قوية الحرارة ملتهبة ، إما من طبعها وإما لعارض عرض لها ، أجمد اللبن فيها وتشيط ، واستحال إلى الدخانية وجنس المرار وأضر بفم المعدة ، والصدر ، ومجاري النفس ، والرأس ، إلا أن يوافي مزاج الرأس معتدلا وجرمه صحيحا قويا ، فلا يقبل من تلك البخارات شيئا ، فيسلم من أذيتها ، وتلحق الاضرار المعدة ومجاري النفس فقط ، لان كثيرا ما يكون مزاج الرأس معتدلا ، ومزاج المعدة حائدا عن الاعتدال ، إما إلى الحرارة وإما إلى البرودة ، أو يكون مزاج الرأس حائدا عن الاعتدال ، ومزاج المعدة والصدر ومجاري التنفس بخلاف ذلك وضده . ومتى كانت المعدة باردة إما من طبيعتها وإما لعارض عرض لها ، ضعفت عن طبخ اللبن وهضمه على ما يجب ، برد واستحال إلى الحموضة والعفونة ، وولد رياحا نافخة وقراقر وانزماما ، وأضر بالجنبين وسائر البطن . فمن أراد أن يزيل ذلك عن اللبن ، فليكن استعماله مطبوخا ببعض الأشياء الغليظة التي تحتاج قبل نضجها إلى نار أكثر ، مثل الحنطة والسميذ والأرز والجاورس ، ليطول فعل النار فيه خارجا ، ويزول عنه أكثر رياحه ونفخه . وإن كان من الواجب أن يتوقى الاكثار منه مع هذه الأغذية أيضا ، لأنها تكسبه لزوجة وغلظا وتعينه على توليد السدد في الكبد والطحال وأحدث الحجارة في الكلى ‹ والمثانة ، ولا سيما إذا كان معه شئ من عسل أو غيره من الحلاوة ، لان الأعضاء تستلذ حلاوته وتقبل منه أكثر من مقدار القوة على هضمه .
وأما اللبن البعيد العهد بالخروج من الضرع ، المعروف بالدوغ ،
فقد خرج من طبيعة اللبن الحلو جملة ، ومال إلى البرودة واليبوسة . وإذا صار اللبن مثل هذه الحال ، بعد عن قبول الاستمرار في المعدة المعتدلة المزاج ، فضلا عن المعدة الباردة . وأما المعدة الحارة المزاج ، فقد يوافقها متى أخذ منه بقدر على سبيل الدواء ولم يكثر منه ، لان الاكثار منه يغذو غذاء غليظا مذموما ، ويولد في الكلى والمثانة رملا وحصى ، لان كل طعام غليظ هذه سبيله وبخاصة إذا أخذ على غير نقاء من المعدة ، إلا أنه لا يتجبن في المعدة كما يتجبن اللبن الحلو ، لأنه قد عدم الكيفيتين القاتلتين لذلك ، أعني الحرارة والرطوبة . وإذا عدم اللبن الحرارة والرطوبة لم يقبل الانعقاد أصلا .
وأما اللبن الرائب المعروف بالماست
، فهو في فعله وانفعاله متوسط بين طبيعة اللبن الحلو وطبيعة اللبن الحامض ، لما فيه من بقايا عذوبة اللبن الحلو . فإذا نزع زبده ، كان أفضل لغذائه وقوي على تسكين الحرارة وبخاصة إذا كان من لبن البقر ، لغلبة البرد على مزاج البقر بالطبع . وأما اللبأ ، فلغلظه وعدم المائية أصلا ، صار أعسر انهضاما وأبعد من الانحدار عن المعدة ، وأكثر الألبان تولدا للدم المذموم والاخلاط الغليظة . ولذلك صار يتخم بسرعة ولا سيما إذا لم يكن معه لا عسل ولا غيره من الأشياء الحلوة التي معها جلاء وغسل ، إلا أنه إذا صار إلى المعاء ، أثقلها بغلظه وهيج القوة الدافعة إلى إحداره بسرعة ، وأسهل البطن ، وصار سببا عرضيا لزلق الأمعاء ولتوليد العلة المعروفة بالهيضة . وما عقد من اللبأ في قدر منزلة في جوف ماء حار ، كان ألطف له وأرطب . وما عقد على نار أو رماد حار ، كان أغلظ وأثقل . › في الإنفحة وأما الإنفحة ، فيابسة حريفة بطيئة الانهضام عسيرة الانحدار محرقة للدم بحرافتها وحدتها . في الجبن وأما الجبن ، فمركب من قوى ثلاثة : إحداها : قوة اللبن ، والثانية : قوة الإنفحة ، والثالثة : قوة الملح . واللبن على ما بينا وأوضحنا ، مركب من جواهر ثلاثة : جوهر الجبن ، وجوهر السمن ، وجوهر الرطوبة . ولذلك انقسم الجبن على ثلاثة أقسام : أحدها : الطري الكثير المائية . والثاني : العتيق الكثير الجبنية القليل المائية