الطب النبوي - ابن القيم الجوزي - ص 127 - 133
فصول في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة ، والمركبة منها ومن الأدوية الطبيعية . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق ، ولو كان شئ سابق القدر : لسبقته العين " ( 1 ) وفى صحيحه أيضا عن أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة " . وفى الصحيحين ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق " ( 2 ) . وفى سنن أبي داود ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : " كان يؤمر العائن فيتوضأ ، ثم يغتسل منه المعين " ( 3 ) . وفى الصحيحين عن عائشة ، قالت : " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن نسترقى ( 4 ) من العين " ( 5 ) . ‹ صفحة 128 › وذكر الترمذي - من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي - : " أن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله ، إن بنى جعفر تصيبهم العين ، أفأسترقي لهم ؟ فقال : نعم ، فلو كان شئ يسبق القضاء ، لسبقته العين " ( 1 ) . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وروى مالك رحمه الله ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة ( 2 ) بن سهل بن حنيف ، قال : " رأى عامر بن ربيعة ، سهل بن حنيف يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء . قال : فلبط سهل ، فأتى ؟ ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا ، فتغيظ عليه ، وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت ، اغتسل له . فغسل له عامر وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه . فراح مع الناس " ( 3 ) . وروى مالك رحمه الله أيضا - عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه - ( هذا الحديث ، وقال فيه : " إن العين حق ، توضأ له . فتوضأ له " وذكر عبد الرزاق - عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه - ) ( 4 ) مرفوعا : " العين حق ، ولو كان شئ سابق القدر : لسبقته العين ، فإذا ( 5 ) استغسل أحدكم فليغتسل " . ووصله صحيح . قال الترمذي : يؤمر الرجل العائن بقدح ، فيدخل كفه في فيه فيتمضمض ، ثم يمجه ( 6 ) في القدح ، ويغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليسرى ، فيصب على ركبته اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده اليمنى ، فيصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخله إزاره ، ولا يوضع ‹ صفحة 129 › القدح في الأرض ، ثم يصب على رأس الرجل الذي يصيبه ( العين ) ( 1 ) ، من خلفه ، صبة واحدة . والعين عينان : عين إنسية ، وعين جنية . فقد صح عن أم سلمة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة ، فقال : استرقوا لها ، فإن بها النظرة " ( 2 ) . قال الحسين بن مسعود الفراء : وقوله " سعفة " أي : نظرة ، يعنى من الجن . يقول : بها عين أصابتها من نظر الجن ، أنفذ من أسنة الرماح . ويذكر عن جابر - يرفعه - : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر " ( 3 ) . وعن أبي سعيد : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يتعوذ من الجان ، ومن عين الانسان " ( 4 ) . فأبطلت طائفة - ممن قل نصيبهم من السمع والعقل - أمر العين ، وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها . وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجابا ، وأكثفهم طباعا ، وأبعدهم من معرفة الأرواح والنفوس وصفاتها ، وأفعالها وتأثيراتها . وعقلاء الأمم - على اختلاف مللهم ونحلهم - لا تدفع أمر العين ولا تنكره : وإن اختلفوا في سببه ، ووجهة ( 5 ) تأثير العين . فقالت طائفة : إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة ، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين ، فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى ، تتصل بالانسان فيهلك . وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي : أنها إذا وقع بصرها على الانسان هلك ، فكذلك العائن . وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية ، فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر . ‹ صفحة 130 › وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر ، عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير أن يكون منه قوة ، ولا سبب ، ولا تأثير أصلا . وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم . وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين . ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة . ولا يمكن العاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام : فإنه أمر مشاهد محسوس . وأنت ترى الوجه : كيف يحمر حمرة شديدة : إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحى منه ، ويصفر صفرة شديدة : عند نظر من يخافه إليه . وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه . وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح . ولشدة ارتباطها بالعين ، ينسب ( 1 ) ( الفعل ) إليها ، وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح . والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها ، وكيفياتها وخواصها . فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا . ولهذا أمر الله سبحانه رسوله : أن يستعيذ به من شره . وتأثير الحاسد في أذى المحسود ، أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الانسانية . وهو أصل الإصابة بالعين . فإن النفس الخبيثة الحاسدة ، تتكيف بكيفية خبيثة ، وتقابل المحسود ، فتؤثر بتلك الخاصية ( 2 ) . وأشبه الأشياء بهذا الأفعى : فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها : انبعث منها قوة غضبية ، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية . فمنها : ما تشتد كيفيتها ونقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين . ومنها : ما يؤثر في طمس البصر . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في الابتروذي الطفيتين ( 3 ) من الحيات : " إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل " . ومنها : ما تؤثر في الانسان كيفيتها بمجرد الرؤية ، من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس وكيفيتها الخبيثة المؤثرة . والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة ‹ صفحة 131 › والشريعة . بل التأثير يكون تارة بالاتصال ، وتارة بالمقابلة ، وتارة بالرؤية ، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل . ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيوصف له الشئ فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره . وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية . وقد قال تعالى لنبيه : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ) ، وقال : ( قل : أعوذ برب الفلق ، من شر ما خلق ، ومن شر غاسق إذا وقب ، ومن ( شر ) النفاثات في العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد ) . فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد عائنا . فلما كان الحاسد أعم من العائن : كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن . وهى : سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن ، نحو المحسود والمعين ، تصيبه تارة وتخطئه تارة . فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه : أثرت فيه ولا بد ، وإن صادفته حذرا شاكي السلاح ، لا منفذ فيه للسهام - : لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها . وهذا بمثابة الرمي الحسى سواء . فهذا من النفوس والأرواح ، وذاك من الأجسام والأشباح . وأصله من إعجاب العائن بالشئ ، ثم يتبعه ( 1 ) كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين . وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه . وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني . وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : " ( إن ) ( 2 ) من عرف بذلك : حبسه الامام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت " . وهذا هو الصواب قطعا . ( فصل ) والمقصود العلاج النبوي لهذه العلة . وهو أنواع . وقد روى أبو داود في سننه ، عن سهل بن حنيف ، قال : " مررنا بسيل ، فدخلت فاغتسلت فيه ، فخرجت محموما . فنمى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مروا أبا ثابت يتعوذه . ( قال ) فقلت : يا سيدي ، والرقى صالحة ؟ فقال : لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة ( 3 ) " والنفس : العين ، يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين . والنافس : العائن . واللدغة : ‹ صفحة 132 › بدال مهملة وغين ( 1 ) معجمة ، وهى ضربة العقرب ونحوها . ( فمن التعوذات والرقى ) : الاكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي . ( ومنها ) : التعوذات النبوية ، نحو : أعوذ بكلمات الله التامات ( من شر ما خلق . ونحو : أعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة . ونحو : أعوذ بكلمات الله التامات ) ( 2 ) التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ماذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان . ( ومنها ) : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون . ( ومنها ) : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات ، من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ، اللهم إنه لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، سبحانك وبحمدك . ( ومنها ) : أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء ( 3 ) الله الحسنى - ما علمت منها وما لم أعلم - من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، إن ربى على صراط مستقيم . ( ومنها ) : اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شئ علما ، وأحصى كل شئ عددا . اللهم إني أعوذ بك من ‹ صفحة 133 › من شر نفسن شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربى على صراط مستقيم وان شاء قال : تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربى ورب كل شئ ، وتوكلت على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من المرزوق ، حسبي الله ( 1 ) هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه ، حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ، وليس ( 2 ) وراء الله مرمى ، حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم . ومن جرب هذه الدعوات والعوذ : عرف مقدار منفعتها ، وشدة الحاجة إليها . وهى تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله ، بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه واستعداده ، وقوة توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه . ( فصل ) وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين ، فليدفع شرها بقوله : اللهم بارك عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لعامر بن ربيعة - لما عان سهل بن حنيف - : " ألا بركت " ، أي قلت : اللهم بارك عليه . ومما يدفع به إصابة العين ، قول : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله . روى هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه ، أو دخل حائطا من حيطانه - قال : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " . ومنها : رقية جبريل عليه السلام ، للنبي صلى الله عليه وسلم - التي رواها مسلم في صحيحه - : " باسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم الله أرقيك ( 3 ) " . ورأى جماعة من السلف : أن يكتب له الآيات من القرآن ، ثم يشربها . قال مجاهد : " لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض " . ومثله عن أبي قلابة . ويذكر عن ‹ صفحة 134 › ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة يعسر عليها ولادها ، آيتان ( 1 ) من القرآن ، يغسل ويسقى . وقال أيوب : " رأيت أبا قلابة كتب كتابا من القرآن ، ثم غسله بماء وسقاه رجلا كان به وجع " . ( فصل ) ومنها : أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه ، وداخلة إزاره - وفيه قولان : ( أحدهما ) : أنه فرجه . ( والثاني ) : أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن . ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة . وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ، ولا ينتفع به من أنكره ، أو سخر منه ، أو شك فيه ، أو فعله مجربا : لا يعتقد أن ذلك ينفعه . وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة - بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة تفعل ( 2 ) بالخاصية : فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية ؟ ! هذا مع أن في المعالجة بهذا الإستغسال ، ما تشهد له العقول الصحيحة ، وتقر لمناسبته . فاعلم أن ترياق سم الحية : في لحمها ، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها وإطفاء ناره : بوضع يدك عليه ، والمسح عليه ، وتسكين غضبه . وذلك بمنزلة رجل : معه شعلة من نار ، وقد أراد أن يقذفك بها ، فصببت عليها الماء وهى في يده ، حتى طفئت . ولذلك أمر العائن أن يقول : اللهم بارك عليه ، ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسان إلى المعين . فإن دواء الشئ بضده . ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد ، لأنها تطلب النفوذ فلا تجد أرق من المغابن وداخلة الازار - ولا سيما إن كان كناية عن الفرج - : فإذا غسلت بالماء بطل تأثيرها وعملها . ( وأيضا ) ( 3 ) : فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص . والمقصود : أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ، ويذهب بتلك السمية . وفيه أمر آخر ، وهو : وصول أثر الغسل إلى القلب ، من أرق المواضع وأسرعها تنفيذا ، فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء ، فيشفى المعين . وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها : خف أثر اللسعة عن الملسوع ووجد راحته . فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها ‹ صفحة 135 › وتوصله إلى الملسوع ، فإذا قتلت : خف الألم . وهذا مشاهد : وإن كان من أسبابه فرح الملسوع واشتفاء نفسه بقتل عدوه ، فتقوى الطبيعة على الألم فتدفعه . وبالجملة : غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه ، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية . فإن قيل : فقد ظهرت مناسبة الغسل ، فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين ؟ . قيل : هو في غاية المناسبة . فإن ذلك الماء ( 1 ) أطفأ تلك النارية ، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ، فكما طفئت به النار ( 2 ) القائمة بالفاعل ، طفئت به وأبطلت عن المحل المتأثر ، بعد ملابسته للمؤثر العائن . والماء الذي يطفأ به الحديد ، يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء . فهذا الذي طفئ به نارية العائن . لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الدواء . وبالجملة فطب الطبائعية وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي ، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم ، بل أقل . فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية ، بما لا يدرك الانسان مقداره . فقد ظهر لك عقد الاخاء الذي بين الحكمة والشرع ، وعدم مناقضة أحدهما للآخر . والله يهدى من يشاء إلى الصواب ، ويفتح لمن أدام قرع باب التوفيق منه كل باب . وله النعمة السابقة ، والحجة البالغة . ( فصل ) ومن علاج ذلك أيضا والاحتراز منه : ستر محاسن من يخاف عليه العين ، بما يردها عنه . كما ذكر البغوي في كتاب شرح السنة : " أن عثمان رضي الله عنه ، رأى صبيا مليحا ، فقال : دسموا نونته لئلا تصيبه العين " ، ثم قال في تفسيره : ومعنى " دسموا نونته " أي : سودوا نونته ، والنونة : النقرة التي تكون في ذقن الصبى الصغير . وقال الخطابي في غريب الحديث له : " عن عثمان أنه رأى صبيا تأخذه العين ، فقال : دسموا نونته . فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه ، فقال : أراد بالنونة النقرة التي في ذقنه ، والتدسيم : التسويد . أراد : سودوا ذلك الموضع من ذقنه ، ليرد العين . قال : ومن هذا حديث عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خطب ذات يوم وعلى رأسه عمامة دسماء ، أي : سوداء " ، أراد الاستشهاد على ( 3 ) اللفظة . ومن هذا أخذ الشاعر قوله : ‹ صفحة 136 › ما كان أحوج ذا الكمال إلى * عيب يوقيه من العين ! ( فصل ) ومن الرقي التي ترد العين ، ما ذكر عن أبي عبد الله التياحي : " أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو ، على ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن قلما ( 1 ) نظر إلى شئ إلا أتلفه . فقيل لأبي عبد الله : احفظ ناقتك من العائن . فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل . فأخبر العائن بقوله ، فتحين غيبة أبى عبد الله : فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت . فجاء أبو عبد الله ، فأخبر : أن العائن قد عانها ، وهى كما ترى فقال : دلوني عليه . فدل ، فوقف عليه : وقال باسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس وشهاب قابس ، رددت عين العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، ( فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) فخرجت حدقتا العائن ، وقامت الناقة ، لا بأس بها " . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى ، بالرقية الإلهية روى أبو داود في سننه ، من حديث أبي الدرداء ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : " من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له ، فليقل : ربنا الله الذي في السماء ، تقدس اسمك وأمرك ( 2 ) في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض ، واغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت رب الطيبين ، أنزل رحمة من عندك ، وشفاء من شفائك على هذا الوجع . فيبرأ بإذن الله " . وفى صحيح مسلم - عن أبي سعيد الخدري - : " أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، اشتكيت ؟ قال : نعم . فقال جبريل عليه السلام : باسم الله أرقيك ، من ‹ صفحة 137 › كل داء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم الله أرقيك " . فإن قيل : فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود : " لا رقية إلا من عين أو حمة " ، والحمة : ذوات السموم كلها ؟ . فالجواب : أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به نفى جواز الرقية في غيرها ، بل المراد به : لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة . ويدل عليه سياق الحديث ، فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين : أو في الرقي خير ؟ فقال : " لا رقية إلا في نفس أو حمة " ، ويدل ( 1 ) عليه سائر أحاديث الرقي العامة والخاصة . وقد روى أبو داود من حديث أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رقية إلا من عين ، أو حمة ، أو دم لا يرقأ " . ( 2 ) وفى صحيح مسلم عنه أيضا : " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة " . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : " انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها ، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم . فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ . فقام بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا ، لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط ، إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه شئ ( 3 ) ، فهل عند أحد منكم من شئ ؟ فقال بعضهم : نعم ، والله إني لارقى ، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا . فصالحوهم على قطيع من الغنم . فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ الحمد لله رب العالمين . فكأنما نشط من عقال . فانطلق يمشى وما به قلبة . قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا . فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ‹ صفحة 138 › فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمريأمرنا . فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له ذلك . فقال : وما يدريك أنها رقية . ثم قال : قد أصبتم ، اقتسموا واضربوا لي معكم سهما ( 1 ) " . وقد روى ابن ماجة في سننه ، من حديث على ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الدواء القرآن " . ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين : الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه ، الذي هو الشفاء التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي ، والرحمة العامة ، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) . و " من " ههنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض . هذا أصح القولين . كقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؟ . فما الظن بفاتحة الكتاب : التي لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله ، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب ومجامعها ، وهى : الله والرب والرحمن والرحيم ( 2 ) ، وإثبات المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة ، وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل الدعاء على الاطلاق وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شئ إليه ، وهو : الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته ، بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، والاستقامة عليه إلى الممات . ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه : بمعرفته ( 3 ) الحق والعمل به ومحبته وإيثاره ، ومغضوب عليه : بعدوله عن الحق بعد معرفته له ، وضال : بعدم معرفته له . وهؤلاء أقسام الخليقة . مع تضمنها لاثبات القدر والشرع ، والأسماء والصفات ، والمعاد والنبوات ، وتزكية النفوس ، وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل . ‹ صفحة 139 › كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير في شرحها ؟ ! . وحقيق بسورة هذا بعض شأنها : أن يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ . وبالجملة : فما تضمنته الفاتحة - : من إخلاص العبودية ، والثناء على الله ، وتفويض الامر كله إليه ، والاستعانة به والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهى : الهداية التي تجلب النعم ، وتدفع النقم . - من أعظم الأدوية الشافية الكافية . وقد قيل : إن موضع الرقية منها : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) . ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما - : من عموم التفويض والتوكل ، والالتجاء والاستعانة ، والافتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهى : عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل ، وهى : الاستعانة به على عبادته . - ما ليس في غيرها . ولقد مر بي وقت بمكة : سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أتعالج بها : آخذ شربة من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مرارا ، ثم أشربه ( 1 ) . فوجدت بذلك البرء التام . ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ، فأنتفع بها غاية الانتفاع . ( فصل ) وفى تأثير الرقي بالفاتحة وغيرها ، في علاج ذوات السموم ، سر بديع . فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة كما تقدم ، وسلاحها : حمتها ( 2 ) التي تلدغ بها ، وهى لا تلدغ حتى تغضب ، فإذا غضبت : ثار فيها السموم ، فتقذفه بآلتها ( 3 ) . وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ، ولكل شئ ضدا . ونفس ( 4 ) الراقي تفعل في نفس المرقى ، فيقع بين نفسيهما ( 5 ) فعل وانفعال - كما يقع بين الداء والدواء - : فتقوى نفس المرقى وقوته بالرقية على ذلك الداء ، فيدفعه بإذن الله . ومدار تأثير الأدوية والأدواء ، على الفعل والانفعال . وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين ، يقع بين الداء والدواء ‹ صفحة 140 › الروحانيين ، والروحاني والطبيعي . وفى النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء ، والنفس المباشر للرقية والذكر والدعاء . فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه ، فإذا صاحبها شئ من أجزاء باطنه - من الريق والهواء والنفس - : كانت أتم تأثيرا ، وأقوى فعلا ونفوذا ، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة ، شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية . وبالجملة : فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة ، وتزيد بكيفية نفسه ، وتستعين بالرقية وبالنفث ( 1 ) على إزالة ذلك الأثر . وكلما كانت كيفية نفس الراق أقوى ، كانت الرقية أتم ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها . وفى النفث ( 1 ) سر آخر : فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة . ولهذا تفعله السحرة ، كما يفعله أهل الايمان . قال تعالى : ( ومن شر النفاثات في العقد ) . وذلك : لان النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة ، وترسل أنفاسها سهاما لها ، وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شئ من ريق ( 2 ) مصاحب لكيفية مؤثرة . والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة : وإن لم يتصل بجسم المسحور ، بل ينفث على العقدة ويعقدها ويتكلم بالسحر ، فيعمل ذلك في المسحور ( 3 ) : بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة ، فتقابلها الروح الزكية الطيبة ، بكيفية الدفع والتكلم بالرقية ، وتستعين بالنفث ، فأيهما قوى كان الحكم له . ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ومحاربتها وآلتها ، من جنس مقابلة الأجسام ومحاربتها وآلتها سواء . بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح ، والأجسام آلتها وجندها . ولكن : من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها ، لاستيلاء سلطان الحس عليه ، وبعده من عالم الأرواح وأحكامها وأفعالها . والمقصود : أن الروح إذا كانت قوية ، وتكيفت بمعانى الفاتحة ، واستعانت بالنفث ‹ صفحة 141 › والتفل - : قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة ، فأزالته . والله أعلم . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج لدغة العقرب بالرقية روى ابن أبي شيبة في مسنده ، من حديث عبد الله بن مسعود ، قال : " بينا رسول ( الله ) ( 1 ) صلى الله عليه وسلم يصلى ، إذ سجد : فلدغته عقرب في إصبعه ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : لعن الله العقرب : ما تدع نبيا ولا غيره . ( قال ) : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح ، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ، ويقرأ قل هو الله أحد ، والمعوذتين . حتى سكنت " ( 2 ) . ففي هذا الحديث ، العلاج بالدواء المركب من الامرين : الطبيعي والإلهي . فإن في سورة الاخلاص - : من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي ، وإثبات الأحدية لله المستلزمة نفى كل شركة عنه ، وإثبات الصمدية المستلزمة لاثبات كل كمال له ، مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها ، أي : تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ، ونفى الوالد والولد والكفء عنه ، المتضمن لنفى الأصل والفرع والنظير والمماثل . - ما ( 4 ) اختصت به ، وصارت تعدل ثلث القرآن . ففي اسمه " الصمد " : إثبات كل الكمال ، وفى نفى الكفء : التنزيه عن الشبيه والمثال ، وفى " الاحد " : نفى كل شريك لذي الجلال . وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد . وفى المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا : فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه ، سواء كان في الأجسام أو الأرواح . والاستعاذة من شر الغاسق ، وهو الليل ، وآيته - وهو القمر إذا غاب - تتضمن ( 4 ) الاستعاذة من شر ما ينتشر ‹ صفحة 142 › فيه : من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار ، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر : انتشرت وعاثت . والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن . والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها . والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن . فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر ، ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها . ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر ، بقراءتهما عقب كل صلاة . ذكره الترمذي في جامعه . وفى هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة . وقال : " ما تعوذ المتعوذون بمثلهما " . وقد ذكر : أنه صلى الله عليه وسلم سحر في إحدى عشرة عقدة ، وأن جبريل نزل عليه بهما ، فجعل كلما يقرأ آية منهما : انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها وكأنما نشط من عقال " . وأما العلاج الطبيعي فيه : فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ، ولا سيما لدغة العقرب . قال صاحب القانون : " يضمد به مع بزر ( 1 ) الكتان للسع العقرب " . وذكره غيره أيضا . وفى الملح : من القوة الجاذبة المحللة ، ما يجذب السموم ويحللها . ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج - : جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج . وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله ، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء : بالتبريد والجذب والاخراج . والله أعلم . وقد روى مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة ! فقال : أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضرك " ( 2 ) . واعلم أن الأدوية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله ، وتمنع من وقوعه ، وإن وقع : لم يقع وقوعا مضرا وإن كان مؤذيا . والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء . فالتعوذات والاذكار : إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب ، وإما أن تحول بينها وبين كمال ‹ صفحة 143 › تأثيرها ، بحسب كمال المتعوذ ( 1 ) وقوته وضعفه . فالرقى والعوذ تستعمل : لحفظ الصحة ، ولإزالة المرض . أما الأول ، فكما في الصحيحين ، من حديث عائشة ، قالت ( 2 ) : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا أوى إلى فراشه : نفث في كفيه بقل هو الله
و الله أحد والمعوذتين ، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده " . وكما في حديث عوذة أبى الدرداء المرفوع : " اللهم أنت ربى ، لا إله إلا أنت ، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم " ، وقد تقدم . وفيه : " من قالها أول نهاره : لم تصبه مصيبة حتى يمسى ، ومن قالها آخر نهاره : لم تصبه مصيبة حتى يصبح " . وكما في الصحيحين : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه " . وكما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم - : " من نزل منزلا ، فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك " . وكما في سنن أبي داود : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في السفر ، يقول بالليل : يا أرض ، ربى وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ومن والد وما ولد " . وأما ( 3 ) الثاني ، فكما تقدم : من الرقية بالفاتحة ، والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية النملة قد تقدم من حديث أنس - الذي في صحيح مسلم - : " أنه صلى الله عليه وسلم ، رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة " . وفى سنن أبي داود ، عن الشفاء بنت عبد الله ، قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‹ صفحة 144 › - وأنا عند حفصة - فقال : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة " . ( النملة ) : قروح تخرج في الجنبين ، وهو داء معروف . وسمى نملة : لان صاحبه يحس في مكانه ( 1 ) كأن نملة تدب عليه وتعضه . وأصنافها ثلاثة . قال ابن قتيبة وغيره : كان المجوس يزعمون : أن ولد الرجل من أخته ، إذا حط على النملة : شفى صاحبها . ومنه قول الشاعر : ولا عيب فينا غير حط لمعشر ( 1 ) * كرام ، وأنا لا نحط على النمل وروى الخلال : " أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقى في الجاهلية من النملة ، فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وكانت قد بايعته بمكة - قالت : يا رسول الله ، إني كنت أرقى في الجاهلية من النملة ، وإني أريد أن أعرضها عليك . فعرضتها فقالت : باسم الله صلت حتى يعود من أفواهها ولا تضر أحدا ( 2 ) ، اللهم : اكشف الباس ، رب ( 2 ) الناس . قال : ترقى بها على عود سبع مرات ، وتقصد مكانا نظيفا ، وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق ، وتطليه على النملة " . وفى الحديث : دليل على جواز تعليم النساء الكتابة . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية الحية قد تقدم قوله : " لا رقية إلا في عين أو حمة " ( الحمة ) : بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها . وفى سنن ابن ماجة - من حديث عائشة - : " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من الحية والعقرب " . ويذكر عن ابن شهاب الزهري ، قال : " لدغ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل من راق ؟ فقالوا : يا رسول الله ، إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية ، فلما نهيت عن الرقي : تركوها . فقال : ادعوا عمارة بن حزم . فدعوه فعرض عليه رقاه ، فقال : لا بأس بها . فأذن له فيها ، فرقاه ( 3 ) " . ‹ صفحة 145 › فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية القرحة والجرح أخرجا في الصحيحين عن عائشة ، قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا اشتكى الانسان أو كانت به قرحة أو جرح ، قال ( 1 ) بإصبعه هكذا ( ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ) ، وقال : باسم الله تربة أرضنا ، بريقة بعضنا ، ليشفى سقيمنا ، بإذن ربنا ( 2 ) " . هذا من العلاج السهل الميسر النافع المركب ، وهى معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية ، لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية . إذ كانت موجودة بكل أرض . وقد علم : أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة ، مجففة لرطوبات القروح والجراحات ، التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها ، وسرعة اندمالها ، لا سيما في البلاد الحارة ، وأصحاب الأمزجة الحارة . فإن القروح والجراحات يتبعها - في أكثر الامر - سوء مزاج حار ، فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح . وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة ، فتقابل . برودة التراب حرارة المرض ، لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف . ويتبعها أيضا كثرة الرطوبات الرديئة والسيلان ، والتراب مجفف لها ، مزيل : لشدة يبسه وتجفيفه . للرطوبة الرديئة المانعة من برئها . ويحصل به - مع ذلك - تعديل مزاج العضو العليل . ومتى اعتدل مزاج العضو : قويت قواه المدبرة ، ودفعت عنه الألم بإذن الله . ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلق بها منه شئ ، فيمسح به على الجرح ويقول هذا الكلام ، لما فيه : من بركة ( ذكر ) ( 3 ) اسم الله ، وتفويض الامر إليه ، والتوكل عليه . فينضم أحد العلاجين إلى الآخر ، فيقوى التأثير . وهل المراد بقوله : " تربة أرضنا " ، جميع الأرض ؟ أو أرض المدينة خاصة ؟ فيه قولان . ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة ، ويشفى بها أسقاما رديئة . قال جالينوس : " رأيت بالإسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا ، يستعملون طين ‹ صفحة 146 › مصر ، ويطلون به على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وظهورهم وأضلاعهم ، فينتفعون به منفعة بينة . قال : وعلى هذا النحو ، فقد يقع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة . قال : وإني لأعرف قوما - ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل - انتفعوا بهذا الطين نفعا بينا ، وقوما آخرين شفوا به أوجاعا مزمنة ، كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا ، فبرأت وذهبت أصلا " . وقال صاحب الكتاب المسيحي : " قوة الطين المجلوب من كنوس - وهى جزيرة المصطكي - قوة تجلو أو تغسل ، وتنبت اللحم في القروح ، وتختم القروح " انتهى . وإذا كان هذا في هذه التربات ، فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها : وقد خالطت ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الامر إليه ؟ ! وقد تقدم أن قوى الرقية وتأثيرها : بحسب الراقي وانفعال المرقى عن رقيته . وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم ، فإن انتفى أحد الأوصاف ، فليقل ما شاء . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرقية روى مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن أبي العاص : " أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل : باسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته ، من شر ما أجد وأحاذر ( 1 ) " . ففي هذا العلاج - : من ذكر اسم الله والتفويض إليه ، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم . - ما يذهب به . وتكراره ليكون أنجع وأبلغ ، كتكرار الدواء لاخراج المادة . وفى السبع خاصية لا توجد في غيرها . وفى الصحيحين : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله ، يمسح عليه بيده اليمنى ، ويقول : اللهم رب الناس ، أذهب الباس : واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما " . ‹ صفحة 147 › ففي هذه الرقية ، توسل إلى الله : بكمال ربوبيته ، وكمال رحمته بالشفاء ، وأنه وحده الشافي ، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه . فتضمنت التوسل إليه : بتوحيده وإحسانه وربوبيته . فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج مر ( ؟ ) المصيبة و حزنها قال تعالى : " وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون ) . وفى المسند عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم : أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها - إلا آجره ( 1 ) الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها ( 2 ) " . وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته . فإنها تتضمن أصلين عظيمين - إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته - ( أحدهما ) : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية . فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير : يأخذ متاعه من المستعير . وأيضا : فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله ، وعدم بعده . وملك العبد له متعة ( 3 ) معارة في زمن يسير . وأيضا : فإنه ليس هو ( 4 ) الذي أوجده عن عدمه ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقى عليه وجوده . فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي . وأيضا : فإنه متصرف فيه بالامر ، تصرف العبد المأمور المنهى ، لا تصرف الملاك . ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه ، إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي . ( والثاني ) : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا ( 5 ) ‹ صفحة 148 › وراء ظهره ، ويجئ ربه فردا - كما خلقه أول مرة - بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات . فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على مفقود ! ففكرة العبد ( 1 ) في مبدئه ومعاده ، من أعظم علاج هذا الداء . ومن علاجه : أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . قال تعالى : " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور ) . ومن علاجه : أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، وادخر له - إن صبر ورضى - ما هو أعظم من فوات تلك ( 2 ) المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي . ومن علاجه : أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ( 3 ) ، ولينظر يمنة ، فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة ؟ ( 4 ) وأنه لو فتش العالم : لم ير فيهم إلا مبتل
إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن سرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل : إن أضحكت قليلا ، أبكت كثيرا ، وإن سرت يوما ، ساءت دهرا ، وإن متعت قليلا ، منعت طويلا ، وما ملأت دارا خيرة ، إلا ملأتها عبرة ( 5 ) ، ولا سرته بيوم سرور ، إلا خبأت له يوم شرور . قال ابن مسعود - رضي الله عنه : " لكل فرحة ترحة ، وما ملئ بيت فرحا ، إلا ملئ ترحا " . وقال ابن سيرين : " ما كان ضحك قط ، إلا كان من بعده بكاء " . ‹ صفحة 149 › وقالت هند بنت النعمان : " لقد رأيتنا : ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا : ونحن أقل الناس . وإنه حق على الله : أن لا يملا دارا خيرة ، إلا ملاها عبرة " . وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها ، فقالت : " أصبحنا ذات صباح : وما في العرب أحد إلا يرجونا ، ثم أمسينا : وما في العرب أحد إلا يرحمنا " . وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما - وهى في عزها - فقيل لها : ما يبكيك ؟ لعل أحدا آذاك ؟ قالت : لا ، ولكن رأيت غضارة في أهلي ، وقلما امتلأت دار سرورا ، إلا امتلأت حزنا " . قال إسحق بن طلحة : " دخلت عليها يوما ، فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس ( 1 ) ، إنا نجد في الكتب : أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة ، إلا سيعقبون بعدها عبرة ، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه ، إلا بطن لهم بيوم يكرهونه . ثم قالت : فبينا نسوس الناس : والامر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها : * تقلب تارات بنا ، وتصرف " . ومن علاجها : أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها . وهو في الحقيقة من تزايد المرض . ومن علاجها : أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم - وهو من ( 2 ) الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظم من المصيبة في الحقيقة . ومن علاجها : أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسئ صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه . وإذا صبر واحتسب : أقصى شيطانه ، ورده خاسئا ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو ‹ صفحة 150 › قبل أن يعزوه . فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور . ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب - من اللذة والمسرة - أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به ، لو بقى عليه . ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى ( 1 ) له في الجنة ، على حمده لربه واسترجاعه . فلينظر أي المصيبتين أعظم : مصيبة العاجلة ؟ أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد ؟ . وفى الترمذي مرفوعا : " يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا ، لما يرون : من ثواب أهل البلاء " . وقال بعض السلف : " لولا مصائب الدنيا ، لوردنا القيامة مفاليس " . ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله . فإنه من كل شئ عوض ، إلا الله فما منه عوض . كما قيل : من كل - شئ إذا ضيعته - عوض ، * وما من الله - إن ضيعته - عوض ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه ( 2 ) له ، فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط . فحظك منها ما أحدثته لك . فاختر إما خير الحظوظ ، أو شرها . فإن أحدثت له سخطا وكفرا : كتب في ديوان الهالكين . وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب ، أو في ( 3 ) فعل محرم - : كتب في ديوان المفرطين . وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر : كتب في ديوان المغبونين . وإن أحدثت له اعتراضا على الله ، وقدحا في حكمته - : فقد قرع باب الزندقة أو ولجه . وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله : كتب في ( ديوان الصابرين . وإن أحدثت له الرضا : كتب في ) ( 4 ) ديوان الراضين . وإن أحدثت له الحمد والشكر : كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين . وإن أحدثت له ‹ صفحة 151 › محبة واشتياقا إلى لقاء ربه : كتب في ديوان المحبين المخلصين . وفى مسند الإمام أحمد والترمذي - من حديث محمود بن لبيد يرفعه - : " إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط " ، زاد أحمد : " ومن جزع فله الجزع " . ومن ( 1 ) علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار . وهو غير محمود ولا مثاب . قال بعض الحكماء : " العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ، ما يفعله الجاهل بعد أيام . ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم " . وفى الصحيح مرفوعا : " الصبر عند الصدمة الأولى " . وقال الأشعث بن قيس : " إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا ، وإلا سلوت سلو البهائم " . ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب . فمن ادعى محبة محبوب ، ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه ( 2 ) - : فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتمقت إلى محبوبه . وقال أبو الدرداء : " إن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى به " . وكان عمران ابن الحصين ، يقول في علته : " أحبه إلي : أحبه إليه " . وكذلك قال أبو العالية . وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به . ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة تمتعه بثواب الله له . فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجح : فليحمد الله على توفيقه . وإن آثر المرجوح من كل وجه : فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه ، أعظم من مصيبته التي أصيب ما ؟ ؟ في دنياه . ومن علاجها : أن يعلم أن الذي ابتلاه بها : أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه ‹ صفحة 152 › سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به : ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحا ببابه ، لائذا بجنابه ، مكسور القلب بين يديه ، رافعا قصص الشكوى إليه . قال الشيخ عبد القادر : " يا بنى : إن المصيبة ما جاءت لتهلكك ، وانما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك ، يا بنى : القدر سبع ، والسبع لا يأكل الميتة " . والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهبا أحمر ، وإما أن يخرج خبثا كله . كما قيل : سبكناه : ونحسبه لجينا ، * فأبدى الكير عن خبث الحديد فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا : فبين يديه الكير الأعظم . فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكيرين - فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل . ومن علاجها : أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها ، لأصاب العبد - : من أدواء الكبر والعجب ، والقرعنة ( ؟ ) وقسوة القلب . - ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا . فمن رحمة أرحم الراحمين : أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية ا