يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (أقيموا الدين) 1. هذه المسؤولية تقع على عاتق الجميع رجالا ونساء. فتارة أمر الله تعالى بالفروع أو المقدمات فيقول: (أقيموا الصلاة) 2، أو: (كتب عليكم الصيام)3، وتارة أمر بالنتيجة: (أقيموا الصلاة).
هذا أمر بأداء كل ما من شأنه أن يساهم في إقامة الدين، كأداء الواجبات الشرعية المتقدمة، كذلك الدروس الحوزوية وبناء المساجد والحسينيات والمدارس، وطبع الكتب ونشرها، الخطابة والتأليف، التبليغ واكتساب المعلومات والعلوم الجديدة وغير ذلك مما تكون نتيجته إقامة الدين.
نعم، الإنسان وحده لا يمكن أن يوجد مقدمات بناء المجتمع المؤمن في كل مكان ولا يمكنه أن يسافر الى كل البلدان ويقيم فيها الدين، فهو معذور عما خرج عن قدرته، لكن لا يعفيه من العمل بقدر ما تيسر له.
فمن أجل الموفقية، على الإنسان أن يلتزم بـ: الإخلاص، والإجتهاد بأن يعمل مجدا ويترك الكسل، لأن الدنيا دار عمل وعناء، ومن لا يعمل ويجد فيها لن يحصد في الآخرة سوى الحسرة والندامة.
والأخلاق: بأن يقتدي بأخلاق وسيرة النبي محمد(ص) وأهل بيته (ع) فيتحلى بالصبر والحلم وغير ذلك.
فكل من يعمل بهذه الأمور الثلاثة أكثر، يبلغ درجة أعلى من التوفيق وهذه الأمور لها ركن واحد هو العزم والتصميم.
إن بمقدور كل مسلم ومسلمة أن ينجح في تعلم وتعليم علوم أهل البيت (عليهم السلام) ليكون عاملا في هداية الآخرين، إن علو الهمة في سبيل التعلم يوجب النجاح في هذا الطريق.
إن العبادة من صلاة وصيام وحج وزيارة أهل البيت (عليهم السلام) لا تكون عبادة حقا ما لم تقترن بالعلم ومعرفة الأحكام. فدرجة قبول العمل منوطة بدرجة التفقه في الدين.
روي عن الإمام السجاد (سلام الله عليه): (لا عبادة إلا بالتفقه).. فالذي يصلي لله سبحانه وتعالى، لكنه في الوقت نفسه يقطع رحمه أو يأكل المال الحرام أو يعق والديه ولا يرعى أطفاله. هل تبقى لمثل هذا الشخص عبادة؟
روي أن النبي محمد(ص) نظر ذات مرة الى بعض الأطفال وقال: (ويل لأطفال آخر الزمان من آبائهم) فقيل: يا رسول الله، من آبائهم المشركين؟ فقال: (لا، من آبائهم المؤمنين.. لا يعلمونهم شيئا من الفرائض، وإذا (تعلم) اولادهن منعوهم، ورضوا عنهم بعرض يسير من الدنيا، فأنا منهم بريء، وهم مني براء)!4.
من الضروري للآباء والأمهات أن يهتموا بتربية وتعليم أطفالهم، وأن لا تشغلهم شواغل الدنيا عن ذلك ما استطاعوا.
لكن، أي منهج نتبع؟ ومن أفضل المدارس التربوية في هذا المجال؟ انها، المدرسة المحمدية بالتأكيد، فلننهل منها.. كما يقول ويوجه المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) هنا، الإشارة الى رعاية رسول الله محمد (ص)، واهتمام الإسلام بالطفولة، ليرى العالم.
الرسول الكريم محمد بن عبد الله (ص)، قد جاء في وقت لا يحترم فيه إلا القوي، كما أن أفراد المجتمع ينظرون الى الأطفال نظرة ازدراء:
1ـ فهم يئدون البنات، ويدفنونهن أحياء. قال تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)5، (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) 6.
2ـ لا يقبلون الأطفال، أو يلاعبونهم، كما قال أحد سادتهم عندما وفد على رسول الله(ص)، ورآه يداعب أحفاده ويقبلهم، يا رسول الله! أتقبلون الصبيان؟. فقال رسول الله: نعم. فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال الرسول الكريم: (أرأيت إن نزع الله الرحمة من قلبك).
3ـ كانوا لا يعطفون على الأيتام، بل يحاولون السطوة على أموالهم، مستغلين ضعفهم، وعجزهم، فأوصى القرآن الكريم أمة محمد (ص) بهم خيرا، في مواقع كثيرة، ثم يؤكد الرسول الكريم، فيحث على ذلك بقوله: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وشبك السبابة والوسطى).
خرج النبي(ص) في هذا المجتمع، فرسم خطة هي نموذج في العطف والشفقة على الطفولة، وأسلوب تربوي لم يسبق له نظير في الرعاية والتوجيه، لأطفال أصبحوا رجالا موجهين، ومفكرين يقظين، فقادوا أمتهم أسمى المراتب، وحققوا مثاليات في الإدارة والقيادة، لأن نفوسهم جبلت على الخير، وطباعهم تعودت الحنان في وقت الرعاية، وفي سنن النضج والتفتح.
لكن كان علماء التربية في عصرنا الحاضر يرجعون كثيرا من أعمال الرجال، وتصرفاتهم، من حسن أو سوء، نجاح أو فشل، الى التربية الأولى للطفل، وفي موطن نشأته الأولى بين البيت والمدرسة، وإلى الدروس التي يستقيها من والديه وموجهيه فيهما.
فإن المدرسة المحمدية قد سبقتهم بأربعة عشر قرنا، ووضعت في مناهجها التربوية، ضرورة العناية بهذه الفترة الزمنية. ورعاية الأطفال في سن التفتح ونشدان المعرفة، والاهتمام بهم في سن النضج والإدراك، وتوجيههم الوجهة السليمة التي تؤهلهم لمشاق الحياة، واحتمال صعابها، كما يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا... على ما كان عوده أبوه
نحس في هذا دروس عملية، يطبقها رسول الله(ص) بنفسه، تتمثل في وقائع يدركها المتتبع لسيرته الطيبة، واستقراء لأخلاقه المثالية، وأسلوبه الفريد في تنشئة الأمة، وترسيخ دعائم المثاليات في نفوسنا، ونظراته الى براعم لم تتفتح، وأغصان لم يشتد عودها.
ففي بيته، ومع أبناء فاطمة الزهراء(ع) كان يحمل الحسن والحسين(عليهم السلام)، يلاطفهما، يتيح لهما فرصة المرح واللعب حتى ولو كان في صلاته، وعبادته.
في إحدى صلاتي العشي، خرج رسول الله (ص)، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم النبي فوضعه، ثم كبر للصلاة. صلى، سجد سجدة أطالها، كان الصبي على ظهر رسول الله(ص) وهو ساجد. لما قضي رسول الله (ص) الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر ما، أو أنه يوحى إليك. قال: (كل ذلك لم يكن، ولكن أبني أرتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته).
كان رسول الله(ص) يخطب بالمسلمين، فجاء الحسن والحسين(عليهم السلام) وعليهما قميصان، يمشيان، ويعثران، فنزل رسول الله (ص) من المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) 7.. نظرت الى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما.
مع أمته، وسائر المسلمين، يحثهم على التواضع، ورعاية الصبيان، والاهتمام بهم، يذكر الرواة بأنه(ص) يمر بالصبيان فيسلم عليهم.
ينهى عن الكذب على الأطفال، يعاملهم بلطف ولياقة، بل يهتم بأحاسيسهم الفطرية، لأنه يرى فيهم أمل الغد، وعدة المستقبل ورجاله.. فلا بد أن تتوطن نفوسهم على الروح العالية، ومثالية السلوك، هذا لن يكون إلا في مجتمع نشأ أفراده في حياتهم الأولى، على أسلوب متميز في المعاملة والتعاطف، ونهج واضح من التقدير والشعور بمكانة الجميع.
يفعل هذا رسول الله (ص) ليغرس في نفوس أطفال الأمة الثقة بأنفسهم، والاعتداد بتعاليم ربهم.. لأن الأطفال هم المثبت الخصب لكل تقليد، وأخذ لكل خلق، عن طريق الاحتذاء والمحاكاة.
لو سرنا مع المنهج المحمدي الشريف، كما يشير السيد صادق الشيرازي، خطوات، لرأينا الاهتمام المتزايد، الذي لم تحظ به الطفولة في أي عصر من العصور.
هذه بعض الجوانب التي تعطي ملامح للرعاية والاهتمام، اللتين حظيت بهما الطفولة عند المسلمين، جاءت تعليمات هذا الدين تحث عليها، وسار عليها المسلمون اقتداء بالمنهج المحمدي، الذي رسم طريقا مميزا في العناية بالناشئة، ورعايتهم عقليا، صحيا، روحيا، حتى تتربى نفوسهم على الأصالة والثقة بالنفس، فيكون من ثمار هذا الغرس ما تحصده أجيال الأمة من أعمال مثمرة، فكيف طبق المنهج:
1ـ لم تكن هذه الرعاية قاصرة على من يعيش في كنفه، أو تحت سقف بيته (ص) بل إن ذلك أسلوب ينتهجه لأمته، ومبدأ يرسمه ليقتفوا أثره، ويسيروا على منهجه، كما في تربيته المباركة لأسامة بن زيد و أنس بن مالك، عندما كانوا أطفالا.
2ـ الاهتمام يبدأ في العقيدة الإسلامية، منذ أن يتكون الجنين في بطن أمه، حتى يصير مشتد العود، بالغا مبلغ الرجال، قادرا على التصرف في شؤون نفسه، ولقد جعل الرسول الكريم(ص) هذا الاهتمام جزءا من تعاليم الدين.
3ـ يأمر بالصلاة على الأطفال إذا ماتوا.
4ـ يحث على العناية بالحامل، من أجل صحتها وسلامتها، ومحافظة على جنينها.
5ـ حتى السقط الذي لم يكتمل نموه عندما يخرج من بطن أمه ميتا يأمر الدين بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.. كجزء من اهتمام الإسلام بالفرد، واحترام مكانته.
6ـ يرسخ في أمته التوجيه السليم للأطفال، رعايتهم عقليا وسلوكيا. يقول الحديث الشريف: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه،).
7ـ يعودهم على شعائر الدين وهم صغار حتى تتوطن نفوسهم عليها فيصبح ذلك مألوفا لديهم، قال رسول الله (ص): (مروا أبنائكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).
8ـ كان النبي(ص) أبا عطوفا، لأطفال المسلمين عموما، يفرح بقدومهم للحياة، فيشارك في اختيار الأسماء، وتغيير ما لا يتلاءم مع نفسية الطفل الحساسة، أو نظرة المجتمع المتفائلة والمتشائمة، يحنو عليهم، يؤذن ويقيم في آذانهم، يدعو لهم، يعطيهم الطعام في يده الكريمة، يعالج ما يطرأ لهم من أمراض، يمازحهم، يحث على رعايتهم والعطف عليهم.
9ـ يظهر شدة عطفه على الأطفال في منعه التفريق في السبي بين الوالدة وولدها، فيقول(ص): (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة).
10ـ لعل من أهم عناصر الحياة عند المسلمين في الوقت الحاضر الناحية المادية، فالرسول (ص) لم يهمل هذا الجانب بالنسبة للطفل أو الجنين الذي يتوفى والده أو أحد من تربطه بهم صلة الميراث الشرعي، فقد كفل الإسلام ضمان حقوقه، وأعطى له نصيبه كاملا، وتجعل الوصاية عليه لمن يرعى حق الله في ماله، ينميه حتى يكبر، ويستطيع التصرف في ماله، وجعل ولي أمر المسلمين وليا لمن لا ولي له. قال تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم).
عن شبكة النبا