القصّة المظلومة
العمل الأوّل لدي أيّ مبدع هو المعبّر الأمثل عنه، وهو الأقرب إلي قلبه مهما مسح تعاقب الأيّام الغبار المتراكم علي صورته الطفولية، فبدا ضئيلاً غضّاً أو غِرّاً ساذجاً أو ضعيف البنية مثرّم الأسنان.
إنّه الابن الأوّل، وحسبه لموقعه هذا أن يستأثر بالقسط الأوفر من المحبّة والحنان، ولو تكاثر أشقاؤه اللاّحقون وفاقوه وسامة وعافية.
والعمل الأوّل للقاص الرّاحل محمود طاهر لاشين - أحد أبرز روّاد القصّة المصرية والعربية - هو واحد من هؤلاء الأبناء الأوائل المحفوفين من آبائهم بالمحبة الفائقة، لكن حسن حظّه هذا قد أورده أسوأ المهالك، لا لشيء إلاّ لأنّ أباه كان رائداً في مجاله، الأمر الذي اقتضاه جهداً كبيراً في التأسيس والتجريب والإعادة والتعديل، لكي يضمن لقصصه (أبنائه) بلوغ الغاية المثلي من العافية والوسامة والنضج، والوصول بها إلي الكمال الفني المطلوب شكلاً وموضوعاً.
وإذا علمنا أنّ قصّة لاشين كانت لا تستقر علي الورق إلاّ بعد مخاضات كثيرة، تبدأ من اشتغاله عليها ذهنياً، ثم روايتها للعديد من أصدقائه الأدباء، ثمّ المضي بها تقليباً وتعديلاً وتشذيباً حتي مستودعها الأخير، فإننا سنعلم مقدار ما كابده من جهد في كتابة قصّته الأولي (صَح) حيث لم يكن أمامه أيّ نموذج عربي لقصّة حديثة مكتملة الشروط كأختها الأوروبية التي سبقتها إلي التأسيس والاكتمال بعقود طويلة.
إنّ قصة (صَح) التي كتبها لاشين قبل ثمانين عاماً، تُعدّ نموذجاً رائعاً للقصّة الحديثة، حتي بمقاييس أيّامنا، حيث استنفدت الأجيال اللاّحقة كلّ جهدها في التجريب، وبلغت بالقصّة أقصي ما تستطيع من آفاق التطوّر.
يحكي لاشين في (صَح) قصّة مدرّس حساب رفيع الخلق، يموت شقيقه فيضطر إلي الاقتران بأرملته، ليكفل لها الكرامة والستر، وليكفل لولدها ما يستحق من الرعاية. ويبلغ الولد مبلغ الشباب ويدخل في سلك الموظفين بعد إتمامه الدّراسة، لكنّه يبقي مقيماً مع عمّه الذي أحاطه وأمّه دوماً بالرعاية الحقّة.
وحين تموت الزوّجة، يخلو البيت ممّن يقوم علي شؤونهما، فيستأذن العم ابن أخيه، قبل أن يتزوج بامرأة ثانية، فلا يتردّد الشاب في الموافقة.
وهنا تبدأ عقدة القصّة، حيث تكون الزوجة الجديدة شابة، فيخفق قلبها بحبّ الفتي، ويخفق قلب الفتي بحبّها، لكنّهما يكبحان جماح نفسيهما، لأنهّما برغم قوّة المشاعر الفطرية، يحبّان الرّجل حبّاً جمّاً، ويعترفان بنبله وفضله، ويحترمانه إلي أبعد حد.
ولكي يقمع أية زلة محتملة، يقرر الفتي في النهاية أن يغادر المنزل، وحين يصارح عمّه برغبته في السفر إلي بلد آخر لتغيير الجوّ، لا يقتنع الأخير بتلك الأسباب، ويحاول، فيما هو منهمك بتصحيح الدفاتر، أن يثنيه عن عزمه، طالباً منه أن يتريّث ويفكّر في الموضوع.
وينقلب الفتي إلي حجرته، فتهمس له الزوجة من وراء الباب شبه باكية، متوسّلة إليه ألاّ يسافر، فيُدخلها بسرعة، ليصارحها بأنّه متعلّق بها، وهو يعلم أنّها متعلقة به أيضاً، لكنّه مستعد لمكابدة الأهوال، علي أن يسيء إلي عمّه صاحب الفضل عليه. فتعترف له بأنّها تحترم زوجها كثيراً، ولا يمكن أن تُقدم علي اقتراف أيّ فعل يُسيء إليه.. لكنّ أمر المحبّة ليس في يدها.
وفي تلك اللحظة، يقرع باب الحجرة، ويلوح العم وراء الباب.
كان العم قد سمع كلّ شيء، لكنّه يحاول جاهداً أن يُعقل عواصف نفسه. وبعد إطراقة صمت طويلة محتدمة بالمشاعر المتضاربة، يقول لهما إنّ الذنب ليس ذنبهما، وعليهما أن يأويا إلي فراشيهما، وفي الصباح سيكون لكلّ حادث حديث.
ويعود إلي تصحيح دفاتر الامتحانات، حانقاً حائراً مثقلاً بالأفكار السوداء، لكنّ صدمته ما تلبث، علي مرّ السّاعات، أن تفتر، وما يلبث الصفاء أن يعاود نفسه، فيقرّر بعد تأمّل طويل أنّ ما حدث ليس غريباً، ويقول في سرّه: (الشابّة للشاب.. وهذا هو قانون الفطرة).
ويتناول أوّل دفتر أمامه، فيفتحه، ويكتب تحت الإجابة بضربة حادّة: (صَح).
هكذا تنتهي القصّة كما نشرت في مجلة (الفنون) عام 1924.
لكن يبدو أنّ طاهر لاشين المولع بالتغيير والتعديل، قد أعاد التفكير بجدّية في القصّة، ورأي، بعد عام من نشرها، أنّه قد تعسّف في إجراء مثل تلك النهاية وتمعن في شخصيات القصة فوجدها جميعاً شخصيّات بريئة لم تقترف إحداها جرماً يقتضي أن يُنصّب نفسه قاضياً قاسياً مبرم الأحكام، ليصدر الحكم سريعاً وباتراً لصالح إحداها علي الأخري.
قاريء لاشين يعرف أنّه يحبّ جميع شخصيات قصصه، حتي الخاطئة والمجرمة منها، ويعاملها بحيادية نابعة من عطفه علي ضعف الإنسان. فكيف يمكن لكاتب كهذا أن يقترف جريرة إبداء حكم قاطع في قضيّة جميع أطرافها أبرياء يواجهون قدراً لا حيلة لهم أمامه؟
يبدو أنّ مخاض تأنيب الضمير، قد أفلح بعد عام من نشر القصّة في دفع لاشين إلي نقض الحكم، فإذا بالقصّة نفسها تظهر منشورة مرّة أخري في مجلّة (الفجر) عام ،1925 لكن بزيادة سطرين علي أوّلها، وبحذف نهايتها تماماً.. ليكون عنوانها (قصّة بلا نهاية)!.
القصّة بصورتها الجديدة، تكشف عن حدّة موهبة لاشين، وعظيم مهارته في التجريب، وشدّة براعته في توجيه الصياغة والموضوع وجهة أخري، برغم عدم اختلاف النصّ الثاني عن الأوّل إلاّ بلمسات طفيفة.
ففي القصّة التي لم تنته يكون الرّاوي قد اشتري طعاماً في قرطاس، وبعدما استكمل التهامه، فرَدَ القرطاس فإذا هو ورقة من مجلة قديمة طبعت عليها القصّة ذاتها، فقرأها كما هي، لكن عندما يصل إلي مشهد مواجهة العمّ للشّابين تكون السطور في الورقة قد انتهت.. وربّما كانت تكملتها موجودة في ورقة أخري من المجلة نفسها، وقد تحوّلت بدورها لدي البائع إلي قرطاس آخر بيعَ فيه الطعام إلي زبون آخر.
أيُّ براعة!
لقد تخلّص من النهاية تماماً بهذه الحيلة الفنية الجميلة، ونأي بنفسه عن التدّخل في أقدار شخصياته.
لكنّ المشكلة أنّ هذه البراعة المذهلة لا يظهر سحرها إلاّ بقراءة النصّين معاً..
ولأنّ النصّ الأوّل ينبغي أن يختفي بعد أن جري تعديله، ولأنَّ النّصَ الثاني هو وثيقة التعديل التي لا تملك وحدها الإفصاح عن البراعة الفنّية التي أبداها الكاتب عند التعديل، فقد كتب علي النّصين معاً أن يبقيا إلي اليوم مبعدين عن مجموعات لاشين القصصية الثلاث، ومركونين في ذمّة أرشيف الأعمال غير المنشورة في كتب.
ولم يكن ممكناً للقاريء أن يقع علي هذا اللون من البراعة الفنية، ويستذوق جماله وسحره، لولا همّة الناقد المرموق الدكتور صبري حافظ، الذي بذل جهداً ملحوظاً ومشكوراً في جمع أعمال لاشين كاملة، ضمن سلسلة (روّاد الفن القصصي) وأضاف إلي فضله هذا، فضل تزيينها بثاقب فكره تعريفاً ونقداً.