في الكرم والشجاعة
مررت ببعض أحياء العرب، في يوم طما بحر آله واضطراب، فلمحني شخص من بعيد، حوله جماعة من الخدم والعبيد. فأرسل واحداَ منهم في طلبي، فلما دنوت منه رحب بي وأحسن منقلبي، ورفع قدري ومنزلي، وأعذب موردي ومنهلي. وأعز جانبي، وأترع مشاربي. وأجزل نولي وعظم قومي وقولي. وأتحفني باللطائف، وأمدني بكل ساعٍ من البر وطائف. وأضرم نار القرى، وسقى بدماء البدن ظامئ الثرى. ومنحني من الجود بأنواع مختلفة، وأسدى إلي المعروف من غير معرفة، وعقر النعم، وغمر بالإنعام،وتجاوز الحد في الكرم والإكرام. وعم بفضله البسيط وإحسانه الشامل، وآلى أن لا أرحل عن حيه مدة شهر كامل:
وحقق آمالي وقرب مجلسي ... وأرشفني كأس النوال مروقا
وقيدني بالمكرمات، أما ترى ... لساني له بالشكر أصبح مطلقا
ياله جواداً لا يلحق، وغيدقاً لا يطرق حين يطرق، وقلمساً بعيد المدى، وخضرماً تفيض أنديته بالندى، وصنديداً سخي البنان، وسميذعاً لا تبرح ربوعه ربيعاً للضيفان. وهماماً تهمي سحائب جوده، وأريحاً لم يزل مرتاحاً لملاقاة وفوده. يطوى حاتم الطائي عند نشره، ويفنى هرم بن سنان لبقاء شارح ذكره. ويطوف كعب بن مامة بكعبة حرمه، ويخلد به خالد القشري ليقتبس من كرمه وينقص لديه معن بن زائدة، ويلتقط يزيد بن الملهب في هلبة الزمان فرائده:
مفيد ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نارٍ عندها خير موقد
جزيل المروة شريف الأبوة. كريم النجار، جليل المقدار، علي الهمة، طليق الوجه عند الملمة، ويحرز المجد ويذهب الذهب، ويتبدئ بالإحسان إلى العفاة قبل الطلب. ظله ممدود، وجوده موجود، وفناؤه مقصود، وباب منزله عن الواردين غير مردود. يعطي من لا يرجوه، ويفصل قضية المتقاضي وعده على أحسن الوجوه. كم أولى من أيادي، وأنجز إيعاد الأعادي، ومنح براً، وكف عن نزيله ضراً. وأجرى نيل النوال، وأماط عن المجتدي سوء السؤال:
علم المزن الندى حتى إذا ... ما حكا، علم البأس الأسد
فله الغيث مقر بالجدا ... وله الليث مقر بالجلد
ولقد شاهدت منه في مدة مقامي، يكبو دون منتهاه جواد كلامي، من كرم زهت كرومه، وشجاعة طال أسلها وزهت نجومه، ونعم تجل عن الحصر، ونجدة مؤذنة بالنصر، وسماحة وحماسة، وتدبير وسياسة، وثبات أقدام وصبر وإقدام، ولسان لذوي المسألة مجيب، وصدر لمن ورد وصدر رحيب. وهبات طاب هبوب نسيمها ومنح راقت جنات نعيمها، وسخاء بحره زائد، وصلة نفعها على من وصل إليه عائد، وأخلاق حسنة، ومناقب تقصر عن وصفها الألسنة:
وعدل أباح الشاء أتلعة الفلا ... تلس كلاها، والذئاب رعاء
وفضل حباه الله سبحانه به ... ولله وضع الفضل حيث يشاء
لله نسبه الذي علا على الفلك، وفتحت السعادة له الأبواب وقالت هيت لك، وبيته الذي رفع المجد قواعده، وأطلع الرفد في آفاق الإنفاق موائده، وقومه الذين زكت نفوسهم، وأينعت في حدائق العطايا غروسهم، وملكوا أعنة المعالي، ورفعوا خيام خيمهم بأطراف العوالي، يسير الفخر تحت ألويتهم، وتتعطر المجالس بطيب أنديتهم. يقتحمون عتبة الوغى صابرين على الطعن والضرب، ويفضلون مقارعة كماة الحرب، على معاقرة كميت الشرب.
طالما كفوا أكف العدى، ووجد أبناء السرى على نارهم هدى، وشتتوا شمل الأبطال، وجروا على تاج المجرة فضل الأذيال:
إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فأتهم يوم نائل أو نزال
تلق بيض الوجوه سود مثار الذ ... قع خضر الأكناف حمر النصال
وبعد فمحاسنه لا تحصى بعد، وأوصافه لا تدرك لأنها لا تنتهي إلى حد. والإسهاب يضع ممن زاد طولا، واختصار القول أجدر وأولى.
فلما انقضت مدة أليته وقرت عيني بما عاينت من لطف محبته، وآن للمقيم أن يرحل، وللضيف العائد بالفرائد أن يخير وإن لم يسأل، استأذنته في الظعن، وأعلمته باشتياقي إلى الوطن. فأذن لي مكرهاً وأنشدني متأوها:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
جعلت وداعي واحداً لثلاثة: ... جمالك، والعلم المبرح، والمجد
ثم إني سرت شاكراً بره المألوف، ناشراً ألوية معروفه المعروف، حامداً إنعامه الذي شمل القريب والبعيد، مادحاً شخصه الذي لم يشك وحشة قط وهو في الدنيا وحيد، مجرياً ذكر ما حواه ثم عزم العزائم مثنياً على أياديه الجميلة ثناء الروض على الغمائم.