ماقاله البلغاء والعلماء في الامام علي ]
كلمة جبران في الإمام " ع "
قال النابغة جبران خليل جبران : في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها فرددها على مسمع قوم لم يسمعوا بمثلها من ذي قبل ، فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم فمن أعجب بها كان إعجابه موثوقا بالفطرة ، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية . مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته ، مات والصلاة بين شفتيه ، مات وفي قلبه الشوق إلى ربه ، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافية ، غير أنني أتمثله مبتسما قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض ، مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قوم ليسوا بقومهم في زمن ليس بزمنهم ، ولكن لربك شأن في ذلك وهو أعلم . جبران ما جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد في الجزء الأول بحق الإمام ( ع ) ما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريف عليه ووضع المعايب والمثالب له ولعنوه على جميع المنابر وتواعدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكرا حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه وكلما كتم تضوع نشره وكالشمس لا تستر بالراح وكضوء النهار إن حجبت عنه عينا واحدة أدركته عيون كثيرة . وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتذي وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأن شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم ومن كلامه عليه السلام اقتبس وعنه نقل وإليه انتهى ومنه ابتدأ ، فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي الحسن وإلى علي بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بآخره إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر . ومن العلوم علم الفقه وهو عليه السلام أصله وأساسه وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه ، وأما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام وقرأ جعفر على أبيه ( ع ) وينتهي الأمر إلى علي عليه السلام وأما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي وقرأ ربيعة على عكرمة وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على علي ( ع ) وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الأربعة ، وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وكلاهما أخذا عن علي ( ع ) أما ابن عباس فظاهر وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة . ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه أخذ ومنه فرع وإذا رجعت إلى كتب التفسير لعلمت صحت ذلك . ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون . ومن العلوم علم النحو والعربية وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء اسم وفعل وحرف ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم وهذا يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط . وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها ، أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ومن اسم من يأتي بعده . ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة وهو الشجاع الذي ما فر قط ولا ارتاع من كتيبة ولا بارز أحد إلا قتله ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية . وأما القوة والأيدي فيه يضرب المثل فيهما قال ابن قتيبة في المعارف ما صارع أحدا قط إلا صرعه وهو الذي قلع باب خيبر واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيما كبيرا جدا فألقاه إلى الأرض وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته بيده عليه السلام بعد عجز الجيش كله عنها فانبط الماء من تحتها . وأما السخاء والجود فماله فيه ظاهرة كان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده وفيه أنزل " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية ، فأنزل فيه ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " . وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن مذنب وأصفحهم عن مسئ . وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين . وأما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء وعن كلامه قيل دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة .›
وأما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال وإليه تشد الرحال وعنده تنفض الأحلاس ما شبع من طعام قط وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا وأما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاد وصوما ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة . وأما قراءته القرآن والاشتغال به فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله ( ص ) ولم يكن غيره يحفظه ثم هو أول من جمعه ، وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ وأبو عبد الرحمن كان تلميذه وعنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق . وأما الرأي والتدبير فكان من أسد الناس رأيا وأصحهم تدبيرا وهو الذي أشار على عمر لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث وإنما قال أعداؤه لا رأي له لأنه كان متقيد بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه وقد قال عليه السلام لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب . وأما السياسة فإنه كان شديد السياسة خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به ، وأحرق قوما بالنار ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي وقطع جماعة وصلب آخرين . وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة وتصور ملوك الفرنج ولزوم صورته في بيعها وبيوت عباداتها حاملا سيفه مشمرا لحربه وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها ، وكان على سيف
عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته وكان على سيف الب أرسلان وابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر . وما أقول في رجل أحب كل أحد أن يتكثر به وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها أن لا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه وصنفوا في ذلك كتبا وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه ، وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان وعضدوا مذهبهم بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد . لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء وشيخ قريش ورئيس مكة قالوا قل أن يسود فقير وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له وكانت قريش تسمية الشيخ ، وهو الذي كفل رسول الله ( ص ) صغيرا وحماه وحاطه كبيرا ومنعه من مشركي قريش ولقي لأجله عنتا عظيما وقاسى بلاء شديدا وصبر على نصره والقيام بأمره ، وجاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحى إليه الجليل يأمره بالهجرة وأن يخرج منها فقد مات ناصره وله مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين ، وأخاه جعفر ذو الجناحين وزوجته سيدة نساء العالمين وابنيه سيدا شباب أهل الجنة فآباؤه آباء رسول الله وأمهاته أمهات رسول الله وهو مسوط بلحمه ودمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبي طالب وأمهما واحدة فكان منهما سيدا الناس هذا الأول وهذا التالي وهذا المنذر وهذا الهادي . وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله وعبده وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق ، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله ( ص ) . ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله ( ص ) وإيمانا به ولم يخالف في ذلك إلا الإقلال وقد قال هو عليه السلام أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام الناس وصليت قبل صلاتهم
.