الفصل الثاني

الصحابة في القرآن الكريم

وتعرّض القرآن الكريم لاَحوال الصحابة وصفاتهم منذ بداية بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحتى وفاته... في كثيرٍ من سوره وآياته...
لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ في مقابل الكافرين والذين أُوتوا الكتاب ـ إلى ثلاثة طوائف هم :
1 ـ الذين آمنوا .
2 ـ الذين في قلوبهم مرض .
3 ـ المنافقون .
والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان «الذين في قلوبهم مرض» إلى جنب «الذين آمنوا» في بعض السور المكية .
ففي سورة المدثر ، المكية بالاجماع ، وهي من أوليات السور ، جاء قوله تعالى : ( وَما جَعلنا أصحَابَ النَّارِ إلاّ مَلائكةً * وما جَعلنَا عِدّتهُم إلاّ فِتنَةً للَّذينَ كَفرُوا ليستيقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً ولايَرتَابَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ والمؤمنُونَ وليقُولَ الَّذينَ في قُلوبِهمِ مَرضٌ والكافِرونَ ماذا
ه( 22 )
أرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً... ) (1).
دلّت الآية المباركة على وجود أُناس «في قلوبهم مرض» حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ الاَيام الاُولى من الدعوة الاِسلامية ، و «المرض» بأي معنىً فسّر ، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنورة ، قال الله تعالى : (وممّن حولكم من الاَعراب ومن أهل المدينة... ) (2).
فالذين في قلوبهم مرض لازموا النبي منذ العهد المكي ، حيث كان الاِسلام ضعيفاً والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مطارداً . أما المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الاِسلام ، فتظاهروا بالاِسلام حفظاً لاَنفسهم وأموالهم وشؤونهم .
وبناءً على هذا ، فكلّ آيةٍ من القرآن الكريم ورد في ظاهرها شيء من الثناء على عموم الصحابة ، فهي ـ لو تمّ الاستدلال بها ـ محفوفة بما يخرجها عن الاطلاق والعموم وتكون مخصّصةً بـ «الذين آمنوا» حقيقةً ، فلا يتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرض ، والمنافقين ، الذين وقع التصريح بذمّهم كذلك في كثيرٍ من الآيات (3).
وفيما يلي نستعرض الآيات القرآنية التي نزلت في الصحابة في مختلف مراحل الدعوة الاِسلامية ، وفي مختلف ظروفهم من حيث القرب والبعد عن الاَسس الثابتة في العقيدة والشريعة ، ومن حيث درجة الانقياد لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الاَوامر والنواهي .

____________
ه 1) سورة المدثر 74 : 31 .
ه 1) سورة التوبة 9 : 101 .
ه 3) اُنظر تفسير الميزان 20 : 90 .

ه( 23 )

آيات المدح والثناء

ذكر غير واحد من المؤلفين آياتٍ من القرآن الكريم للاستدلال على أنّ الله قد أثنى في كتابه على الصحابة بنحو العموم :
الآية الاُولى : قال تعالى : ( كُنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنّاسِ تأمُرُونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ... ) (1).
قالوا : نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة كما ورد عن عبدالله بن عباس أنّه قال : (هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة) (2).
وعن عكرمة ومقاتل : (نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم : إنَّ ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله تعالى هذه الآية...) (3).
لكن قول ابن عباس لو ثبت مقيّد بما أشرنا إليه ، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرض قطعاً .
كما أنّ قول عكرمة وأمثاله ليس بحجة .


____________
ه 1) سورة آل عمران 3 : 110 .
ه 2) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 1 : 399 . والدر المنثور ، للسيوطي 2 : 293 . وبنحوه في الجامع لاحكام القرآن ، للقرطبي 4 : 170 .
ه 3) أسباب نزول القرآن ، للواحدي : 121 .

ه( 24 )
والآية حتى لو كانت نازلة في مورد خاص إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الاُمّة الاِسلامية كما يقول ابن كثير : (والصحيح أنَّ هذه الآية عامة في جميع الاُمّة كل قرن بحسبه) (1).
واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية ، هل هو الاُمّة بأفرادها فرداً فرداً ؟ أي أنّ كلّ فرد من الاُمّة الاِسلامية هو موصوف بالخيرية ، أو هو الاُمة إجمالاً ، أي بمجموعها دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً .
فذهب جماعة إلى الرأي الاَول ومنهم : الخطيب البغدادي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبدالبر القرطبي ، وابن الصلاح ، وابن النجّار الحنبلي (2) .
فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الاُمّة وهم الصحابة آنذاك ، فكل صحابي يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين .
وذهب آخرون إلى الرأي الثاني ، وهو اتصاف مجموع الاُمّة بالخيرية دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً ، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا يتصف بالخيرية من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، سواء كان فرداً أو أُمّة .
قال الفخر الرازي : (... المعنى أنّكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الاُمم وأفضلهم ، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة... وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجه عليكم من التكاليف... والاَلف
____________
ه 1) تفسير القرآن العظيم 1 : 399 .
ه 2) الكفاية في علم الرواية : 46 . الاصابة 1 : 6 . والاستيعاب 1 : 2 . ومقدمة ابن الصلاح : 427 . وشرح الكوكب المنير 2 : 274 .

ه( 25 )
واللام في لفظ (المعروف) ، ولفظ (المنكر) يفيدان الاستغراق ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر... (تأمرون) المقصود به بيان علة تلك الخيرية) (1).
وقال الفضل الطبرسي : (كان بمعنى صار ، ومعناه : صرتم خير أُمّة خلقت لاَمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال... شرطاً في كونهم خيراً) (2).
وقال القرطبي : (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر : مدح لهذه الاُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به ، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر ، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم) (3).
فالخيرية تزول إن زالت علّتها ، وذهب إلى ذلك ـ أيضاً ـ نظام الدين النيسابوري (4) ، والشوكاني (5)، وآخرون .
وذكر ابن كثير قولين ـ في ذكر الشروط ـ أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والآخر لعمر بن الخطّاب :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « خيرُ الناس أقرأهم ، وأتقاهم ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم » (6).

____________
ه 1) التفسير الكبير 8 : 189 ـ 191 .
ه 2) مجمع البيان في تفسير القرآن ، للطبرسي 1 : 486 .
ه 3) الجامع لاَحكام القرآن ، للقرطبي 4 : 173 .
ه 4) تفسيرغرائب القرآن ، للنيسابوري 2 : 232 .
ه 5) فتح القديرللشوكاني : 371 .
ه 6) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير 1: 399

ه( 26 )
فالآية الكريمة ناظرة إلى مجموع الاُمّة ، أمّا الاَفراد فقد وضع صلى الله عليه وآله وسلم مقياساً لاتصافهم بالخيرية كما جاء في قوله .
وفي حجة حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة ، فقرأ هذه الآية، ثم قال : (من سرّه أن يكون من هذه الاُمّة فليؤدِ شرط الله فيها) (1).
وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيرية مختصة بمن نزلت فيهم الآية في حينها ، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : (... أنتم خير أُمّة في الوجود الآن ، لاَنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون إيماناً صادقاً يظهر أثره في نفوسكم... وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولاً ، وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل... وما فتئت هذه الاُمّة خير الاُمم حتى تركت الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (2).
وأضاف محمد رشيد رضا : الاعتصام بحبل الله ، وعدم التفرّق ، إلى شرط الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : (شهادة من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنّها خير أُمّة أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث ، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة ، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الاِسلام واتّباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم ، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الاِسلام ، إلاّ بعد القيام بالاَمر
____________
ه 1) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 1 : 404 .
ه 2) تفسير المراغي ، لاحمد مصطفى المراغي 4 : 29 .

ه( 27 )
بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين...
إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الاِيمان الكامل ، لم تكن لكلِّ من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي) (1).
ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الاَقرب للمعنى المراد ، فإنَّ الآية ناظرة إلى مجمل الاُمّة وليس إلى الاَفراد فرداً فرداً .
وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال : (... لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين ، فالمراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع ، فلا يراد كل واحد منهم ـ أي من الصحابة ـ) (2).
الآية الثانية : قال تعالى : ( وكذلِكَ جعلناكُم أُمَّةً وسطاً لِتكونُوا شُهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسُولُ عليكم شهيداً... ) (3).
جعل الله تعالى المسلمين أُمّة وسطاً بين الاُمم ، لا سيّما اليهود والنصارى ، فالاُمّة الوسط بعيدة عن التقصير والغلو في الاعتقاد وفي المواقف العملية من الاَنبياء ، قال النيسابوري : (إنّهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط ، والغالي والمقصّر في شأن الاَنبياء لا كالنصارى... ولا كاليهود) (4) .
ويطلق الوسط أيضاً على الخيار والعدل .

____________
ه 1) تفسير المنار 4 : 58 ـ 59 .
ه 2) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف : 82 .
ه 3) سورة البقرة 2 : 143 .
ه 4) تفسير غرائب القرآن 1 : 421 .

ه( 28 )
قال الزمخشري : (... وقيل للخيار وسط لاَنّ الاَطراف يتسارع إليها الخلل والاِعوار ، والاَوساط محمية محوطة.. أو عدولاً لاَنَّ الوسط عدل بين الاَطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض) (1).
وقال القرطبي نحو ذلك (2).
والوسطية بمعنى الاعتدال بين الافراط والتفريط هي المستعملة في آراء المشهور من المفسرين (3).
فهذه الآية كسابقتها في أن المراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع ، وإنْ حاول جماعة ـ ومنهم : عبدالرحمن ابن أبي حاتم الرازي، والخطيب البغدادي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبدالبر القرطبي ، وابن الصلاح ، وابن النجّار (4)ـ تنزيلها على الاَفراد فجعلوا كلّ مسلم وسطاً وعدلاً ، فالصحابة جميعهم عدول بشهادة القرآن لهم .
قال الفضل الطبرسي : (... إنّه ـ تعالى ـ جعل أُمّة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدلاً وواسطة بين الرسول والناس ، ومتى قيل : إذا كان في الاُمّة من ليس هذه صفته ، فكيف وصف جماعتهم بذلك ؟ فالجواب : إنّ المراد به من كان بتلك الصفة ، ولاَن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم) (5).
____________
ه 1) الكشّاف 1 : 318 .
ه 2) الجامع لاَحكام القرآن 2 : 154 .
ه 3) مجمع البيان 1 : 244 . وتفسير المراغي 2 : 6 . وتفسير المنار 2 : 5 .
ه 4) الجرح والتعديل 1 : 7 . والكفاية في علم الرواية : 46 . والاِصابة 1 : 6 . والاستيعاب 1 : 2 . ومقدمة ابن الصلاح : 427 . وشرح الكوكب المنير 2 : 474 .
ه 5) مجمع البيان 1 : 224 .

ه( 29 )
وجعل أحمد مصطفى المراغي شرطاً للاتصاف بالعدالة والوسطية ، وهو اتّباع سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن لم يتبعها يعتبر خارجاً عن هذه الاُمّة فقال : فنحن إنّما نستحق هذا الوصف إذا اتّبعنا سيرته وشريعته ، وهو الذي يحكم على من اتّبعها ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أُخرى وانحرف عن الجادّة ، وحينئذٍ يكون الرسول بدينه وسيرته حجّة عليه بأنّه ليس من أُمتّه.. وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين) (1).
وذهب إلى هذا الرأي محمد رشيد رضا في تفسير المنار (2).
وخصّص العلاّمة الطباطبائي هذه الصفة بالاَولياء دون غيرهم ، فقال : (ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الاُمّة ، إذ ليست إلاّ كرامة خاصة للاَولياء الطاهرين منهم) (3).
وقال ـ أيضاً ـ : (فالمراد بكون الاُمّة شهيدة أنّ هذه الشهادة فيهم ، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فضّلوا على العالمين ، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف بها كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه) (4).
ومما يشهد على أنَّ المقصود ليس أفراد الاُمّة ، هو أنَّ الذين ذهبوا إلى حجية إجماع الاُمّة استندوا إلى هذه الآية ، واعتبروا إجماع الاُمّة هو الحجّة دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً ، كما حكى عنهم الشريف
____________
ه 1) تفسير المراغي 2 : 6 .
ه 2) تفسير المنار 2 : 5 .
ه 3) الميزان في تفسير القرآن 1 : 321 .
ه 4) الميزان في تفسير القرآن 1 : 321 .

ه( 30 )
المرتضى (1)َوأبو حيان الاَندلسي (2).
وأكدّ علاء الدين البخاري على أنّ المقصود هو مجموع الاُمّة فقال : (فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الاُمّة موصوفاً بالعدالة ، إذ لا يجوز أن يكون كل واحد موصوفاً بها ، لاَنّ الواقع خلافه) (3).
وبعد ، فإنَّ من غير الصحيح الاستدلال بالآية الكريمة على عدالة الصحابة أجمعين ، أمّا على تفسير العلاّمة الطباطبائي فالاَمر واضح ، وأمّا على ما ذكرنا سابقاً من ضرورة لحاظ آيات القرآن الكريم كلّها وضمّ بعضها إلى البعض الآخر ، فهي وانْ شملت الاَفراد لكن «الذين آمنوا» فقط ، دون «الذين في قلوبهم مرض» و «المنافقين» ، وأمّا على أقوال الجمهور ، فلا يمكن أن يكون المقصود أفراد الاُمّة واحداً واحداً ليستفاد منها عدالة الصحابة ، لاَن الواقع خلافه كما نصّ عليه العلاء البخاري .
فالآية الكريمة جعلت المسلمين أُمّة وسطاً أو عدلاً ، وهذه الوسطية والعدلية ممتدة مع امتداد الاُمّة الاِسلامية في كلِّ عصر وزمان ، فالاُمّة الاِسلامية في مراحل لاحقة هي أُمّة وسط في عقيدتها وشريعتها وتطبيقها للمنهج الاِسلامي ، وفي مرحلتنا الراهنة حينما نقول إنّ الاُمّة الاِسلامية أُمّة وسط أو أُمّة عادلة ، يصح القول إذا كان المقصود مجموع الاُمّة ، أمّا سراية الوسطية والعدلية للاَفراد فرداً فرداً فلا تصح ، لاَنّ الواقع يخالف ذلك ، فكثير من المسلمين بعيدون عن الاِسلام كلّ البعد في تصوراتهم
____________
ه 1) الشافي في الاِمامة 1 : 232 وما قبلها .
ه 2) تفسير البحر المحيط 1 : 421 .
ه 3) كشف الاَسرار ، لعلاء الدين البخاري ، دار الكتاب العربي ـ بيروت 1394 هـ .

ه( 31 )
ومشاعرهم ومواقفهم ، فكيف نعمّم العدالة على الاَفراد ؟ وما نقوله هنا نقوله في حقّ أفراد الاُمّة في زمن النزول ، فالآية مختصة بمجموع الاُمّة بما فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعترة الطاهرة: والمهاجرون والاَنصار السابقون للخيرات والذين لم يخالفوا الاَوامر الاِلهية والنبوية طرفة عين ، واستمروا على ذلك حتى بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الآية الثالثة : قال تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تبيَّنَ لهُ الهدى ويتَّبِع غيرَ سبيلِ المؤمنين نولِّه ما تولّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءت مصيراً ) (1).
استدل البعض على طهارة وعدالة جميع الصحابة فرداً فرداً بهذه الآية الكريمة ومنهم عبدالرحمن الرازي (2).
ووجه الاستدلال : أنّ الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ، فيكون اتّباع سبيلهم واجباً ، ولا يصح الاَمر باتّباع سبيل من يجوز عليهم الانحراف والريبة والفسق .
ولا علاقة للآية بمسألة عدالة الصحابة أبداً كما لا يخفى . ومع التنزل فإنّ الاستدلال بهذه الآية على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً لا يصح من عدة وجوه :
الاَول : ذهب كثير من المفسرِّين والمتكلمين إلى أنَّ المقصود بسبيل المؤمنين هو مجموع الاُمّة ، ومنهم القصّار المالكي والسبكي (3).

____________
ه 1) سورة النساء 4 : 115 .
ه 2) الجرح والتعديل ، لعبدالرحمن الرازي 1 : 7 .
ه 3) المقدمة في الاُصول ، للقصّار المالكي : 45 . والابهاج في شرح المنهاج ، للسبكي 2 : 353 .

ه( 32 )
الثاني : المراد بسبيل المؤمنين هو الاجتماع على الاِيمان وطاعة الله ورسوله ، فإنَّ ذلك هو (الحافظ لوحدة سبيلهم) (1).
الثالث : أن يكون سبيل المؤمنين خالياً من الاثم والعدوان ، كما ورد في الآيات الكريمة ، ومنها : قوله تعالى : ( وتَعاونُوا على البرِّ والتَّقوى ولا تَعاونُوا على الاِثمِ والعُدوانِ ) (2)، وقوله تعالى : ( يا أيُّها الذين آمنُوا إذا تناجَيتُم فلا تَتَناجَوا بالاِثمِ والعُدوانِ ومعصِيةِ الرَّسُولِ وتناجَوا بالبّرِ والتَّقوى) (3).
فالله تعالى ينهى عن التعاون والمناجاة بالاِثم والعدوان ، لاِمكان وقوعه من قبل المسلمين .
الرابع : اختلف الصحابة فيما بينهم حتى وصل الحال بهم إلى الاقتتال، كما حدث في معركة الجمل وصفين ، فيجب على الرأي المتقدم اتّباع الجميع ، اتّباع علي بن أبي طالب عليه السلام والخارجين عليه ، وهذا محال ، واتّباع أحدهم دون الآخر يعني عدم اتّباع الجميع بل البعض منهم ، وهذا هو الوجه الصحيح ، وهو وجوب اتّباع من وافق الحق والشريعة وليس اتّباع كل سبيل .
فالسبيل المقصود هو سبيل المؤمنين الموافق للحق وللاَُسس الثابتة في الشريعة ، وليس هو سبيل كلّ فرد من أفراد المؤمنين .
وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى استحالة توزيع سبيل المؤمنين على
____________
ه 1) الميزان في تفسير القرآن 5 : 82 .
ه 2) سورة المائدة 5 : 2 .
ه 3) سورة المجادلة 58 : 9 .

ه( 33 )
الاَفراد فقال : (إنّ لفظ الاُمّة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الاُمّة وأفراد المؤمنين) (1).
الآية الرابعة : قال الله تعالى : ( يا أيُّها النَّبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنينَ ) (2).
في هذه الآية تطييب لخاطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الله حسبه أي كافيه وناصره ومؤيده على عدوه ، واختلف في بيان المقصود من ذيل الآية ، فقال مجاهد : (حسبك الله والمؤمنون) (3)، فجعل المؤمنين معطوفين على الله تعالى ، فالله تعالى والمؤمنون هم الذين ينصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويؤيدوه .
وذهب ابن كثير إلى جعل المؤمنين معطوفين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم فقال : (يخبرهم أنّه حسبهم ، أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم) (4).
وذكر العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين ورجَّحَ الرأي الاَول (5).
وهنالك قرينة تدل على ترجيح الرأي الاَول ، وهي قوله تعالى : (...فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ هو الذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين ) (6).
والآية تسمّي من كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين سواء كان الله تعالى
____________
ه 1) أعلام الموقعين 4 : 127 .
ه 2) سورة الانفال 8 : 64 .
ه 3) الدر المنثور 4 : 101 .
ه 4) تفسير القرآن العظيم 2 : 337 .
ه 5) الميزان في تفسير القرآن 9 : 121 .
ه 6) سورة الانفال 8 : 62 .

ه( 34 )
ناصره وناصرهم ، أو كان الله والمؤمنون ناصرين له صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا دلالة على أكثر من ذلك .
وقد ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الآية تدل على ثبوت عدالة الصحابة أجمعين وطهارتهم (1). وجعلوا الآية شاملة لجميع الصحابة حتى الذين لم يشتركوا في أي غزوة من الغزوات ، وهذا التعميم بحاجة إلى دليل ، ولا يكفي أن نقول : إنَّ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص المورد ، فالآية قد نزلت في مورد خاص وفي معركة بدر بالخصوص ، فكيف نعمّمها على جميع الصحابة حتى الذين كانوا يقاتلون في صف المشركين ثم أسلموا فيما بعد؟
وتسالم المفسرون على نزول الآية في مورد خاص وهو غزوة بدر ، وفي جماعة خاصة من الصحابة ، وهم الصحابة الاَوائل الذين اشتركوا في الغزوة ولم يتخلّفوا ، لا في مطلق الصحابة .
فقيل : أنّها نزلت في الاَنصار (2).
وقيل : أنّها نزلت في الاَربعين الذين أسلموا في بداية البعثة (3).
وعن الاِمام محمد الباقر عليه السلام : « أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب » (4).
والجامع المشترك لهذه الآراء أنّها نزلت في الصحابة الذين شاركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القتال .

____________
ه 1) الكفاية في علم الرواية : 46 . والاِصابة في تمييز الصحابة 1 : 6 .
ه 2) التفسير الكبير 15 : 191 . والدر المنثور 4 : 101 .
ه 3) أسباب النزول ، للسيوطي : 183 . والدر المنثور 4 : 101 .
ه 4) شواهد التنزيل ، للحسكاني 1 : 230 .

ه( 35 )
وبهذا يتضح عدم صحة ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني من شمولها لجميع الصحابة فرداً فرداً ، فالمتسالم عليه أنّ عدد الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أمّا بقية الصحابة الذين أسلموا فيما بعد وخصوصاً بعد فتح مكة ، فقد كان بعضهم في صفوف المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف تشملهم الآية التي نزلت لتطييب خاطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبلاغه بأنّ الله تعالى كافيه وناصره على أعدائه الذين جمعوا له للقضاء عليه وعلى رسالته ، وجميعهم من الصحابة الذين أسلموا فيما بعد ، كمعاوية ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد وغيرهم !
ومع نزول الآية في الصحابة الاَوائل ، إلاّ أنّها مشروطة بحسن العاقبة ، كما سيأتي فيما بعد (1).
وهذا كلّه بحسب الاَقوال والآراء في معنى الآية ونزولها .
أمّا بالنظر إلى ما قدّمناه فإنّ الآية المباركة تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنينَ ) وهل يعمّ هذا اللسان غير «الذين آمنوا» من «الذين في قلوبهم مرض» ومن «المنافقين» ؟!
الآية الخامسة : قال الله تعالى : ( والسّابِقُونَ الاَوّلُونَ مِنَ المهاجرِينَ والاَنصارِ والَّذينَ اتّبعُوهُم بإحسانٍ رّضيَ اللهُ عنهُم ورضُوا عنهُ وأعدَّ لهُم جنّاتٍ تجري تَحتَها الاَنهارُ خالدِينَ فيها أبداً... ) (2).

____________
ه 1) راجع الآية السابعة من هذا الفصل .
ه 2) سورة التوبة 9 : 100 .

ه( 36 )
في هذه الآية ثناء من الله تعالى للسابقين من المهاجرين والاَنصار والتابعين لهم بإحسان ، وتصريح منه تعالى برضاه عنهم لما قدّموا من تضحيات في سبيل الله .
واختلف المفسرون في مصداق السابقين على آراء (1):
الرأي الاَول : أهل بدر .
الرأي الثاني : الذين صلّوا إلى القبلتين .
الرأي الثالث : الذين شهدوا بيعة الرضوان .
واختلفوا في تفسير التابعين على آراء :
الاَول : هم الاَنصار ، على قراءة من حذف الواو من قوله (والّذين) (2).
الثاني : هم المسلمون الذين جاءوا بعد المهاجرين والاَنصار (3).
الثالث : هم المسلمون الذين جاءوا بعد عصر الصحابة (4).
الرابع : هم المسلمون في كلِّ زمان إلى أن تقوم الساعة (5).
واستدل الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن النجّار حسب رأيهم المعروف بهذه الآية على رضوان الله تعالى عن جميع الصحابة
____________
ه 1) مجمع البيان 3 : 64 . والجامع لاَحكام القرآن 8 : 236 . والكشاف 2 : 210 . وتفسير القرآن العظيم 2 : 398 . والدر المنثور 4 : 269 .
ه 2) التفسير الكبير 16 : 171 .
ه 3) المصدر السابق 16 : 172 .
ه 4) الجرح والتعديل 1 : 8 .
ه 5) الدر المنثور 4 : 272 .

ه( 37 )
الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن أسلموا فيما بعد ، أو ارتدّوا ثم عادوا إلى الاِسلام ، حسب تعريفهم للصحابة ، وبهذا الرضوان كانوا عدولاً (1).
وهذا الاستدلال خلاف للواقع ، فالآية مختصّة بالمهاجرين والاَنصار الذين سبقوا غيرهم في الهجرة والنصرة ، من غير «الذين في قلوبهم مرض» و «المنافقين» أمّا التبعية لهم فمشروطة بالاِحسان ، سواء فُسِّر باحسان القول فيهم كما ذهب الفخر الرازي (2)، أو حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم ، كما قال المراغي : (فإذا اتّبعوهم في ظاهر الاِسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين ، وإذا اتّبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض كانوا مذنبين) (3).
فمن لم يحسن القول فيهم أو من لا يتبعهم بإحسان لا يكون مستحقاً لرضوان الله تعالى ، فمن أمر بشتم الاِمام عليّ عليه السلام وذمه لا تشمله الآية ، فقد جاء في وصية معاوية للمغيرة بن شعبة : (لا تترك شتم عليّ وذمّه) ، فكان المغيرة (لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه) (4).
فكيف يدّعون رضوان الله عنهم وقد خالفوا شرطه في الاتّباع بإحسان، وخرجوا على أول المؤمنين ووصي رسول رب العالمين ، أو من استقرت له الخلافة ببيعة أهل الحل والعقد حسب رأيهم ، وسفكوا في هذا الخروج دماء السابقين من المهاجرين والاَنصار والتابعين لهم بإحسان
____________
ه 1)الكفاية في علم الرواية : 46 . والاصابة 1 : 6 . وشرح الكوكب المنير 2 : 472 .
ه 2) التفسير الكبير 16 : 172 .
ه 3) تفسير المراغي 11 : 11 .
ه 4) الكامل في التاريخ 3 : 472 .

ه( 38 )
كعمّار بن ياسر وذي الشهادتين وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وغيرهم كما هو مشهور ؟!
وإضافة إلى ذلك فرضوان الله تعالى مشروط بحسن العاقبة كما ورد عن البراء بن عازب ، حينما قيل له : (طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبايعته تحت الشجرة) ، فقال للقائل : (... إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده) (1).
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (2) .
الآية السادسة : قال تعالى : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤمِنينَ إذ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فتحاً قرِيباً ) (3).
أثنى الله تعالى على الصحابة «المؤمنين» الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة ، وهي بيعة الرضوان ، ومصداق الثناء هو رضوان الله عنهم وإنزال السكينة على قلوبهم .
وعلى الرغم من نزول الآية في بيعة الرضوان عام الحديبية واختصاصها بالمبايعين فقط ، وعددهم ـ حسب المشهور من الروايات ـ كان ألفاً وأربعمائة (4)وهي بقرينة الآيات الاُخرى مخصّصة بالذين آمنوا ولم يكن في قلوبهم مرض ، واستقاموا على الاِيمان ولم ينحرفوا عن لوازم البيعة ، إلاّ أنّ الخطيب البغدادي أدرج جميع الصحابة في هذه الآية ،
____________
ه 1) صحيح البخاري 5 : 160 .
ه 2) مسند أحمد 6 : 19 .
ه 3) سورة الفتح 48 : 18 .
ه 4) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 322 . والسيرة النبوية ، لابن كثير 3 : 324 .

ه( 39 )
وتابعه ابن حجر العسقلاني مستشهداً برأيه (1)، ولهذا ادّعوا عدالة جميع الصحابة كما هو المشهور في تعريفهم للصحابي .
وهذا الادّعاء غير صحيح ، فرضوان الله وسكينته مختصة بالمبايعين الموصوفين بما ذكرناه فقط ، أمّا غيرهم فخارج عن ذلك ، ولاَنّ سبب البيعة هو وصول الخبر بمقتل عثمان من قبل المشركين بعد أن أرسله صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثاً عنه إلى قريش، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيعة على قتال المشركين (2)، وهؤلاء المشركون هم الذين أسلموا فيما بعد وأصبحوا من الصحابة ، فكيف يشملهم رضوان الله وسكينته ، وهم السبب الاَساسي في الدعوة إلى البيعة ، فكيف يُعقل أن يكون رضوان الله شاملاً للمبايعين وللمراد قتالهم في آن واحد ؟!
وإضافة إلى ذلك فإنّ الاَجر المترتب على البيعة موقوف على الوفاء بالعهد ، كما جاء في الآية الكريمة : ( إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِمْ فمن نَكَثَ فإنَّما يَنكُثُ على نفسِهِ وَمَنْ أوفى بما عاهَدَ عَلَيه اللهَ فسيؤتيهِ أجراً عظيماً ) (3)، فرضوان الله وسكينته مشروطة بالوفاء بالعهد وعدم نكثه (4).
وكل ذلك مشروط بحسن العاقبة كما في رواية البراء بن عازب المتقدِّمة ، ولم تمضِ على البيعة إلاّ أيام معدودة حتى عقد رسول
____________
ه 1) الكفاية في علم الرواية : 46 . والاِصابة 1 : 6 ـ 7 .
ه 2) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 330 .
ه 3) سورة الفتح 48 : 10 .
ه 4) الكشّاف 3 : 543 . ومجمع البيان 5 : 113 . وتفسير القرآن العظيم 4 : 199 .

ه( 40 )
الله صلى الله عليه وآله وسلم معاهدة الصلح في الحديبية ، فدخل الشك والريب قلوب بعض الصحابة حتى خالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يستجيبوا له حينما أمرهم بالحلق والنحر (1)إلاّ بعد التكرار وقيامه بنفسه بالحلق والنحر ، وهذا يدّل على أنّ لحسن العاقبة دوراً كبيراً في الحكم على البعض بالعدالة وعدمها، فرضوان الله تعالى إنّما خصص بالبيعة ، ولا دليل لشموله لجميع المراحل التي تعقب مرحلة البيعة ، فمثلاً أنّ قاتل عمّار بن ياسر في صفين كان من المبايعين تحت الشجرة (2). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمّار : « قاتِلهُ وسالبه في النار » (3)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ، عمّار يدعوهم إلى الله ، ويدعونه إلى النّار » (4).
الآية الثامنة : قال الله تعالى : ( مُحَمّدٌ رسُولُ اللهِ والَّذينَ معَهُ أشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بَينَهُم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغُونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً... وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ مِنهُم مَغفِرةً وأجراً عظيماً ) (5).
وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنّهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، عرفوا بالركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان من الله ، ووعد تعالى المؤمنين منهم والذين عملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً.

____________
ه 1) تاريخ اليعقوبي 2 : 55 . والكامل في التاريخ 2 : 205 .
ه 2) الفصل في الاَهواء والملل والنحل 4 : 161 .
ه 3) سير أعلام النبلاء 1 : 420 ـ 426 . والطبقات الكبرى 3 : 261 . وأُسد الغابة 4 : 47 . وكنز العمّال 13 : 531 | 7383 . ومجمع الزوائد 9 : 297 وقال : رجاله رجال الصحيح .
ه 4) صحيح البخاري 4 : 25 . وبنحوه في العقد الفريد 5 : 90 . والكامل في التاريخ 3 : 310 .
ه 5) سورة الفتح 48 : 29 .

ه( 41 )
وقد أُختلف في الصحابة الذين نزلت فيهم الآية ، فذهب ابن الصلاح وابن النجّار إلى أنّ الآية شاملة لكلِّ الصحابة (1).
وذهب آخرون إلى أنّ الآية خاصة بالذين آمنوا وعملوا الصالحات من الصحابة ، وإلى هذا الرأي أشار العلاّمة الطباطبائي بالقول : (... ضمير «منهم» للذين معه ، و «من» للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر... ويفيد الكلام اشتراط المغفرة والاَجر العظيم بالاِيمان حدوثاً وبقاءً ، وعمل الصالحات ، فلو كان منهم من لم يؤمن أصلاً كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق... أو آمن أولاً ثم أشرك وكفر... أو آمن ولم يعمل الصالحات ، لم يشمله وعد المغفرة والاَجر العظيم .
وقيل : إنَّ «من» في الآية بيانية لا تبعيضية ، فتفيد شمول الوعد لجميع الذين معه ، وهو مدفوع... بأنّ «من» البيانية لا تدخل على الضمير مطلقاً...) (2) .
والآية الكريمة نزلت في أصحاب بيعة الرضوان ومن شهد الحديبية(3) وتعميمها على الصحابة جميعاً ـ حتى الذين أسلموا بعد صلح الحديبية ـ بحاجة إلى دليل .
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا معه والرحماء بينهم والاَشدّاء على الكفّار هم الذين شهدوا الحديبية ، أمّا غيرهم فكان باقياً على كفره
____________
ه 1) مقدمة ابن الصلاح : 427 . وشرح الكوكب المنير : 474 .
ه 2) الميزان في تفسير القرآن 18 : 301 ـ 302 .
ه 3) تفسير الماوردي 5 : 309 . وأسباب نزول القرآن ، للواحدي 397 . وأسباب النزول ، للسيوطي: 341 .

ه( 42 )
ولم يسلم إلاّ بعد فتح مكة ، فكيف يصح التعميم ؟!
وصفات الرحمة بينهم والشدة على الكفّار ، هي التي أوجبت لهم المغفرة والاَجر من الله تعالى ، ومن لا يتصف بهذه الصفات فخارج موضوعاً عنهم ، وقد حذّرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الاقتتال الداخلي فقال : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (1).
فقد قتل عبدالرحمن بن عديس البلويّ عثمان بن عفان ، وعبدالرحمن من الذين بايعوا بيعة الرضوان (2)، وحارب معاوية الاِمام عليّاً عليه السلام ، بعد أن أهدى إلى قيصر الروم ذهباً وفضة ليتفرغ إلى حرب الاِمام عليّ عليه السلام (3)، فكان مخالفاً لصفة الذين آمنوا وهي الرحمة بينهم والشدة على أعدائهم ، فقد وادع عدوّه ، وحارب وليّه . وقتل في معركة صفيّن خيار الصحابة ومن المهاجرين الاَوائل ، كعمّار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين .
وقتل معاوية الصحابي حُجر بن عديّ ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحقه وحق من قتل معه: « يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات »(4)
وإذا برّر البعض ما فعله معاوية بأنّه كان مجتهداً ـ كما سيأتي ـ فلااجتهاد لبسر بن أرطأة حينما قتل طفلين لعبيدالله بن العبّاس بن
____________
ه 1) مسند أحمد 6 : 19 . وصحيح البخاري 1 : 39 . وصحيح مسلم 1 : 82 .
ه 2) تاريخ المدينة المنوّرة 4 : 155 .
ه 3) الاِمامة والسياسة 1 : 98 .
ه 4) تاريخ اليعقوبي 2 : 231 .

ه( 43 )
عبدالمطلب (1) .
وهذه الاَحداث تدل على انتزاع صفة الرحمة من بعض الصحابة ، فكيف يدخلون في عموم الآية ؟!
الآية التاسعة : قال تعالى : ( للفُقَراءِ المُهاجرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِنْ ديارِهِم وأموالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ ورِضواناً وينصُرُونَ اللهَ ورَسُولَهُ أولئكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (2).
ويلحق بها قوله تعالى : ( والَّذِينَ تَبَوَّؤا الدارَ والاِيمانَ مِن قَبلِهِم يُحبُّونَ مَنْ هاجرَ إليهِم ولا يَجدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً ممَّا أوتُوا وَيُؤثِرونَ على أنفُسِهِم ولو كانَ بِهِم خَصاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ) (3).
وقوله تعالى : ( والَّذينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِم يقُولُونَ ربَّنا اغفِر لَنا ولاِخواننا الَّذينَ سَبقُونا بالاِيمانِ ولا تَجْعَل في قُلُوبِنا غِلاًّ للَّذِينَ آمَنْوا رَبَّنا إنَّكَ رؤوفٌ رَحِيمٌ) (4).
أثنى الله تعالى على الصحابة من المهاجرين والاَنصار والذين آمنوا فيما بعد ، والظاهر من الثناء اختصاصه بالمجموع لا بالاَفراد فرداً فرداً، لاَنّ الثناء انصبَّ على خصائصهم المشرقة النبيلة المتمثلة بنصرهم لله ورسوله والاِيثار على النفس ، والدعاء للسابقين بالمغفرة ، ونزع الغل ـأي العداوة ـ من قلوب الذين آمنوا بعد الهجرة ، فَمَن يتَّصف بهذه الصفات
____________
ه 1) الكامل في التاريخ 3 : 384 . وشرح نهج البلاغة 1 : 340 .
ه 2) سورة الحشر 59 : 8 .
ه 3) سورة الحشر 59 : 9 .
ه 4) سورة الحشر 59 : 10 .

ه( 44 )
يستحق الثناء .
وقد وردت تفاسير عديدة تؤكد أنّ المراد بالصادقين بعض المؤمنين وليس جميعهم (1) .
ولا ريب في أنّ المراد من هذا البعض هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم والمخلصون لله سبحانه في جميع حالاتهم ، فالآية لا تعم الذين في قلوبهم مرض ، والذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم .
بينما ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الثناء يشمل جميع أفراد المؤمنين ، أي الصحابة فرداً فرداً (2)، فهم الصادقون والمفلحون .
لكنَّ هذا القول يدفعه الثابت من سير بعض الصحابة وتاريخهم ، فإذا تتبّعنا سيرة بعض الصحابة نجدهم قد بدّلوا الدعاء بالغفران للسابقين إلى اللعن والشتم ، والدعاء برفع الغلّ والعداوة إلى العداء الحقيقي الذي وصل إلى حدِّ استحلال قتل من تقدّمهم بالاِيمان والهجرة ، فكيف تشملهم الآية ؟!
وكان معاوية وولاته يسبونَّ الاِمام عليّاً عليه السلام من على منابر المسلمين (3).
ووضع معاوية قوماً من الصحابة على رواية أخبار قبيحة في الاِمام عليّ عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، ويجعل لهم هدايا من بيت المال
____________
ه 1)مختصر تاريخ دمشق 18 : 10 . وشواهد التنزيل : 351 . والدر المنثور 4 : 316 .
ه 2) الكفاية في علم الرواية : 46 . والاِصابة 1 : 6 ـ 7 .
ه 3) مسند أحمد 7 : 455 . والمعجم الكبير 23 : 323 . والعقد الفريد 5 : 115 .

ه( 45 )
مقابل ذلك (1) .
فأين الدعاء بالمغفرة ، والدعاء برفع الغلّ والعداوة ؟ وهل يصح الاجتهاد في سبّ المهاجرين الاَوائل المنزّهة قلوبهم من أيّ مرض ؟!
وقد اعترف مروان بن الحكم بأنّ سبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام لا مبرّر له إلاّ الحفاظ على كرسي الحكم بعد أن أثبت براءته من دم عثمان ، حيثُ جاء في قوله للاِمام علي بن الحسين عليهما السلام : (ما كان أحد أكفّ عن صاحبنا من صاحبكم) فقال عليه السلام : «فَلِمَ تشتمونه على المنابر ؟ » قال مروان : (لا يستقيم لنا الاَمر إلاّ بذلك)(2).
فمن بدّل الدعاء بالغفران ورفع الغلّ بالشتم والقتال ، لا يكون مصداقاً للآيات المتقدّمة .
وخلاصة ما تقدَّم أنّ الآيات النازلة بحق الصحابة والثناء عليهم ، لم تكن شاملة لجميع الاَفراد ، فبعضها ناظر إلى المجموع بما هو مجموع دون السراية إلى الاَفراد ، وبعضها مختصّ بطائفة منهم وضمن مواصفات خاصّة ، وبعضها مشروط بشروط معينة ، وبعضها مشروط بحسن العاقبة .

____________
ه 1) شرح ابن أبي الحديد 4 : 63 .
ه 2) شرح ابن أبي الحديد 13 : 220 . وبنحوه في أنساب الاشراف 2 : 184 .